مثل مايسترو متحكم فى أدواته، يحول صلاح عيسى كتابه الأخير «شخصيات لها العجب» الصادر مؤخرا عن دار نهضة مصر إلى سيمفونية من ست حركات، عصية على التصنيف، لا تترك مجالا للقارئ إلا الاستغراق فى القراءة، ست حركات أو فصول، كل فصل يضم شخصيات يرسمها «عيسى» بريشة روائى، فيظهر ما فيها من «أضواء وظلال، ونور وعتمة، وشجاعة وحماقة، وإقدام وتراجع، وعطاء وأنانية»، يكتب «عيسى» عن أبطال فى مسرحية الوطن، لعبوا كما يقول فى المقدمة «أدوارا رئيسية، وأحيانا هامشية فى مسرحية ذلك الزمان»، يكتب بروح المخرج الذى يعيد اكتشاف الأبطال، فيعطى البعض مساحة أكبر، ويختصر فى دور البعض الآخر، ويظهر فى خلفية المَشَاهد كومبارسا أحيانا، أو بطلا أحيانا أخرى، ولكنه -وعكس ما كتب فى المقدمة- لم يكن أبدا فى صفوف المشاهدين «أعلى التياترو».
يبدأ عيسى فصول كتابه الممتع بمجموعة من «البورتريهات» لشخصيات برزت أدوراها فى مرحلة ما بين الثورتين، وفى المقدمة يأتى الملك فاروق، الذى يعيد صلاح عيسى – حسب ما رواه عادل ثابت – اعتباره، فيصفه فى بورتريه يحمل عنوان «الملك فاروق بورتريه غير ثورى»، والعهدة لاتزال لعادل ثابت، «وطنيا متحمسا تحدى النفوذ البريطانى فى الشرق الأوسط» ويخلُص إلى أن «فاروق فقد عرشه بسبب إصراره على استرداد فلسطين»، وينتقل من رواية لأخرى كلها تعود لنفس الكاتب، ليعيد إلى «فاروق» البريق ويخلع عليه رداء الوطنية، ضد «تعرضه لألوان مختلفة من الدعاية الفجة»، بروح أقرب للروائى يعيد «عيسى» خلق فاروق، فى بورتريه تطغى فيه روح الأدب على روح الباحث، التى تظهر فى نهاية البورتريه، لتنفى وتفند إحدى روايات عادل ثابت التى تتهم فى مضمونها «الضباط الأحرار» بالتعاون مع أمريكا، ومن الملك فاروق ينتقل عيسى بروح مخرج نصفه روائى ونصفه باحث، ليعيد خلق عدد من الشخصيات التاريخية مثل فتحى رضوان وفؤاد سراج الدين وحلمى مراد وطه حسين.
يصف عيسى مرحلة تصنيف الكتاب بالمحيرة ويقول عنها «احترت هل أصنفها على أساس تواريخ نشرها أم على أساس المرحلة الزمنية التى برز خلالها دور كل شخصية، أم على أساس انتماءاتها الفكرية؟ ثم استبعدت الخيار الأول، ومزجت بين الخيارين الأخيرين»، ولا يتخلص «عيسى» فى كتابه البديع من هواه السياسى، الذى يظهر بين سطوره المصنوعة بحرفة كبيرة، فيجمع –فى إشارة ذات مغزى– السادات مع عثمان أحمد عثمان فى بورتريه واحد يحمل عنوان «أنور السادات وعثمان أحمد عثمان: الرئيس مقاولا والمقاول رئيسا»، ويقول فيه «لم يكتشف أحد حتى الآن، سر العلاقة الحميمة التى جمعت بين المقاول والرئيس، إذ لم يكن السادات خلال السنوات الأخيرة من عمره، يطيق فراق عثمان فإذا اختفى من مجلسه سأل عنه بإلحاح وقلق، شأن من يشعر بأن شيئا ما ينقصه»، ويسخر فى منطقة أخرى من تنفيذ السادات «نصائح عثمان السياسية التى تعود أن يقول له كلما تطرق الحديث إلى المعارضين، سواء كانوا أفرادا أم أحزابا أم دولا (اضربهم كلهم بالجزمة القديمة يا ريس) فاتخذ إجراءات سبتمبر الشهيرة» وهى الاعتقالات التى طالت الكاتب نفسه.
وفى الفصل الثانى من الكتاب الممتع، يواصل المخرج «صلاح عيسى» إعادة رسمه للشخصيات وخلقها بقلمه البديع، فيفند نصف الباحث فى كاتبنا الكبير، واقعة انتشرت فى التسعينيات تتحدث عن «خطة وضعها جهاز الموساد الإسرائيلى لإحلال اللواء محمد نجيب مكان الزعيم جمال عبدالناصر بعد التخلص منه» وهى الواقعة التى سردها مؤرخان فرنسيان، وتداولتها الصحف العربية وقتها، ويسرد «عيسى» كل الدوافع التى قد تحرك «نجيب» للقبول بلعب هذا الدور، قبل أن يفند الدعوى تماماً فى نهاية البورتريه الذى يحمل عنوان «أكاذيب التاريخ السوداء» ويكتب «فى هذا السياق تبدو الرواية، التى ساقها المؤرخان الفرنسيان، عصية على التصديق، خاصة أنها تفتقد، حتى الآن الأدلة والوثائق والتفاصيل» وينهى البورتريه بـ«ما أكثر ما يحفل به التاريخ من أكاذيب بيضاء وسوداء».
ولا يكتفى «عيسى» فى كتابه الذى حمل عنوانا فرعيا «ذكريات وتراجم ودراسات.. ووثائق» برسم صورة لـشخصيات «وقف بعضها تحت أضواء مسرح (الزمان) المبهرة، قبل أن تدركها عواصفه وتقلباته، فتتراجع من مقدمة المسرح إلى خلفيته، ومن خشبته إلى مقعد فى أعلى التياترو، بين آحاد الناس وعوامهم»، بل يذهب لشخصيات مهجورة، ليعطيها أدوار البطولة، مثل «أكرم الحورانى» الذى يضعه الكاتب فى مقاربة مع جمال عبدالناصر فى بورتريه يحمل عنوان «الرجل الذى أطلق العفريت من القمقم»، ويقول فيها «وكانت هزيمة 48 هى الخط الفاصل الذى حسم تردد الرجلين، فاقتنع (عبدالناصر) حين كان محاصرا فى (الفالوجة)، أن العدو الحقيقى خلفه، وليس أمامه، وأن الاستيلاء على السلطة فى القاهرة شرط لا يمكن بدونه تحقيق النصر على العدو، فعاد إليها لكى يشرع فى صيف 1949 فى تأسيس (تنظيم الضباط الأحرار) بعد أربعة شهور فقط من استيلاء حسنى الزعيم على السلطة فى دمشق، وهو الانقلاب الذى أيده «الحورانى» ودعمه وكتب له البلاغ رقم واحد ليصبح منذ ذلك التاريخ، وحتى عام 1936، أحد أهم الوجوه المدنية التى تصدرت مسلسل الانقلابات العسكرية فى سوريا».
ويواصل المخرج متابعة الخطين الدراميين إلى أن يفترقا وبعد أسابيع من الوحدة (بين مصر وسوريا)، وجد أكرم الحورانى نفسه مرة أخرى فى مواجهة عفريت أطلقه من القمقم، فقد رفض عبدالناصر اقتراحا قدمته إليه قيادة حزب البعث لتشكيل لجنة تحكم دولة الوحدة.. ومنذ تلك اللحظة بدأ أكرم الحورانى يغذى المشاعر القطرية، ويشعل الرغبة فى الانفصال». شخصيات وأحداث لا تجدها إلا فى جعبة صلاح عيسى، معلومات تثير الدهشة، وصياغة ممتعة لا يجد معها القارئ سبيلاً سوى الاستغراق فى الاستماع لسيمفونية عيسى المعزوفة بمهارة مايسترو نصفه روائى ونصفه باحث.