الهند معجزة لونية وموسيقية ورقصية، وهى تُصَدِّر بـ64 مليار دولار كل عام، من المنسوجات المطبوعة والمشغولات اليدوية وحدها، ناهيك عن صادراتها من منتجات الفن والسينما والموسيقى.
أمضيت أسبوعا فى نيودلهى لحضور معرض المنتجات والمشغولات اليدوية- دورة الخريف- فوجدت عجباً من الألوان والصبغات والمنتجات.. كيف لهذا الشعب- الذى يدهس الفقر مئات الملايين من أبنائه، وتُغَبِّر الأتربة والشموس والأمطار الاستوائية وجوهه وجيوبه- أن ينتج كل تلك البهجة العميقة، ألوان الهند تشفى من السقم ومن كآبة المنظر، فهل الهند حقا دولة غنية بفقرائها كما قالت زميلة تونسية. 2700 عارض فى معرض واحد استقطبوا أكثر من 7000 أجنبى جاءوا لإبرام صفقات، (البيع بالتجزئة غير مسموح به). تستورد الإمارات 30% مما تُصَدِّره الهند من منتجات معدنية يدوية. تستورد أمريكا 42% مما تُصَدِّره الهند من منتجات خشبية يدوية. تستورد الإمارات أيضا 21.9% من صادرات المنسوجات المطبوعة، وأمريكا 11.7%، وتستورد الإمارات وحدها 76% من المنتجات الريفية اليدوية، وتستورد أمريكا 20% من الصادرات من المشغولات الذهبية... إلخ. لقد ضربت المثل ببلدين تربطنا بهما علاقات «استراتيجية»، وكان يُفترض أن تُصَدِّر مصر إليهما الكثير من تلك المنتجات. الهند هى معرض دائم للدهشة والخيال الخلاب والرقص الملون والأنغام الزاهية، حتى ولو كانت مبكية. هى عولمة بديلة بمعنى ما، حيث تمكنت- حتى هذه اللحظة- من إلحاق هزيمة قوية بالعولمة الأمريكية (الرموز الأمريكية، من الكوكا إلى ماكدونالدز إلى الكاوبوى، حضورها باهت للغاية هنا). صحيح يتغير ذوق الطبقة المترفة وفوق المتوسطة الناشئة، وتتجه غربا نسبيا، لكن تبقى الهند هى الهند، يمارس الهنود الحفاظ على هويتهم بلا عنت ولا توتر. مَن يخترع منهم صواريخ الفضاء التى تصل إلى المريخ من أول إطلاقة، وبائع العصير المتجول الذى يقشر البرتقالة الواحدة فى ثانية، يمارسان ذلك بسلاسة كأن كلاً منهم لا يفعل أمراً غير عادى.
تحاول الدكتورة هبة حندوسة طوال الوقت أن تنقل تجربة الهند فى المنتجات اليدوية إلى مصر من خلال مبادرة «إينيد» وسط صعوبات عصيبة هنا. أفضل ما فى الممارسة الهندية تقسيم العمل بين الولايات، حيث تشارك 57 مدينة تمتد عبر البلاد كلها فى الإنتاج المتخصص، وأبرز ما فيها أيضا الحفاظ على روح الهند فى التصميمات والألوان والخامات وصدق المعاملات. الصين أكبر مُصَدِّر فى العالم لهذا النوع من المنتجات، لكن أثق أن الهند ستتفوق. الصين تحول الهوية إلى سلعة تجارية، بينما الهند تجعل الهوية حافزاً على الإبداع، وبعده يأتى المال.
يعمل فى الصناعة 7 ملايين هندى، معظمهم من النساء. الهند امرأة!.. فأعظم التماثيل والمنحوتات تلك التى تقام للمرأة، وعادة ما يتم تصويرها كأسطورة لها طيبة ونقاء الفيل، ولها البطن الحبلى دائما، انتصاراً للحياة وللتجدد، أو كعازفة على الطنبور تحيطها الطيور الزاهية والشقية. لا تحدد الهند النسل كالصين، وقد يكون فى بعض ذلك خير للبشرية؟! الصينى «ينقش» أى حاجة يراها وينتج مثلها بعد ساعات مهما كان تعقيدها (كالساعات السويسرية بالغة الدقة).. الهندى يتأمل ما يراه ويخطف ببصره لقطة، ثم يخزنها فى الذاكرة ويلحمها مع موروثه، ثم يقدم منتجه. النزعة التجارية بدأت تتواجد بالهند منذ سنوات، لكن لاتزال أدنى بكثير من أن تغير المسار الهندى. بعض العارضين فى المعرض كان يطلب منى عدم التصوير لكن الأغلبية لم تمانع.. ظنى أنهم يقولون لأنفسهم إنه إذا لم تسمح بالتصوير فستلتقط عينا المصور- مثلما تفعل عينا الهندى- ما هو أبعد من الصورة.
عن الهند نقل العالم «الكلر بارتى». عن الهند أنقل إليكم اعتراف الطواويس بأنها استعارت ألوانها من قلوب الهنادوة. مصر ترابها زعفران.. يعترف الهنود بأن مصر تتفوق فى الأثاث وفنون الصوفية والجداريات. الهند زعفرانها فى نهاية الأمر صبغة مقدسة توضع على جبهة النساء (علامة الزواج) والرجال (علامة التقوى). نيودلهى مدينة بلا أبراج (وإن كانت قد بدأت تظهر فى الطريق الدائرى)، ويتعايش الفقر والغنى الفاحش بسلام عجيب. الهنود فيهم صبر مبدع وعدم تضجر مثير، ولذلك ازدهرت الصناعات اليدوية لديهم. من حق عامليهم، وهذا ما قلته وأقوله، أن يحصلوا على نصيب عادل من ثمار عملهم. بغير ذلك ستفقد الهند زخمها فى هذا المجال. يتعين ألا توجد وساطات بين المنتج ومنافذ العرض والتوزيع، لأن فى ذلك مقتل الإبداعات. الطفيلية ضد الفن. هذه نصيحة- بلا ألوان- أقدمها لمن يعنيه الأمر هناك.