وكأن هناك من ساءه ويسيئه خلو الحياة المصرية من جماعة الإخوان كتنظيم وليس كفكرة فقرر خلق البديل. البديل هنا هو التوك توك. والقائم بفعل الأخونة ليس الإخوان بل الحكومة نفسها. والظاهرتان (الإخوان والتوك توك) بدأتا على استحياء وتمكنتا فيما بعد من التمدد لتصبحا سرطانا يهدد الأوضاع فى مصر. نعم إن كلا من الإخوان والتوك توك متهمان بـ«سرطنة» الحياة المصرية. ذلك أن الإخوان ظلت لعقود طويلة تتمتع بوضع تفضيلى فى الساحة المصرية من قبل الحكومات المتعاقبة. فرغم عدم اعتراف الحكومات المتعاقبة بالإخوان رسميا فإنها منحتها وضعا «حسدتها» عليه الكثير من القوى السياسية، فوصفها الدكتور رفعت السعيد بأنها لم تكن «محظورة» بل كانت فى الواقع «محظوظة». فالجماعة المحظورة نظريا كانت تعمل على الأرض بصرف النظر عن بعض المنغصات هنا أو هناك. والجماعة المحظورة لم تخضع يوما ما لما خضعت له الكيانات الشرعية مثل الأحزاب. والجماعة المحظورة تمكنت أو سمح لها بالتواصل والتواجد بين المواطنين وفى كل شبر من مصر، بينما لم تتمكن الأحزاب أو مُنعت من ذلك. والحاصل أن الأحزاب أصبحت كيانات كرتونية بينما تعملقت الجماعة فحصلت الأخيرة فى انتخابات مجلس الشعب على ما لم يستطع حزب مصرى قديم أو حديث أن يحصل عليه. وبينما نست أو تناست الأحزاب بفعل تضاؤل القدرات الاقتصادية مهمتها فى التجنيد والسعى للوصول إلى السلطة، تزايد عدد أعضاء الجماعة وقدراتها المالية وتفكيرها فى الوثوب إلى السلطة حتى تملكت منها فى عامى 2011 و2012.
الآن يتكرر نفس الوضع مع التوك توك. فالتوك توك ينتشر فى شوارع وحارات مصر انتشار النار فى الهشيم. صاحب التوك توك ليس عليه أى التزامات تجاه الدولة أو تجاه المواطنين، كما كان الوضع مع الإخوان تماما. الدولة تعلن ليل نهار أن التوك توك ممنوع وأنها ستتصدى لتلك الظاهرة. الدولة تصر على عدم ترخيص التوك توك، أى أنها تعتبره محظورا كما الجماعة سابقا. ومع ذلك فالتوك توك يخوض كل شوارع مصر تحت سمع وبصر الحكومة كما الجماعة سابقا. التوك توك معفى من الضرائب ومعفى من دفع تكلفة أى حادثة يتسبب فيها بما يمنحه من ميزات تفضيلية تمكنه من منافسة التاكسى والميكروباص الذى يئن تحت وطأة تكلفة الترخيص والعداد والمخالفات، تماما كما كان يحدث من منافسة الجماعة للأحزاب الخاضعة للقانون والجهاز المركزى للمحاسبات. باختصار فإن الدولة تغض النظر عن التوك توك الخارج عن القانون بينما تلاحق وتحاسب وسائل المواصلات الأخرى المشمولة بالقانون. الدولة بدون مواربة تخلق عدوا جديدا أو تصنعه على أعينها تماما كما صنعت الإخوان سابقا.
وكما لم تكن الجماعة مجرد تجمع بشرى، فإن التوك توك ليس مجرد وسيلة مواصلات. فالجماعة كانت تهدف للوصول إلى السلطة، والأهم عملها على تغيير هوية المجتمع وثقافته تماما كما يفعل انتشار التوك توك حاليا، فهو فى الحقيقة يمثل ثقافة جديدة أو امتدادا لانحدار الثقافة المصرية الذى بدأ مع ظاهرة الميكروباص، علاوة على المخاطر الأمنية التى يمثلها فى ظل حالة عدم الاستقرار التى تشهدها مصر منذ عام 2011. وكما كانت الجماعة تستمد قوتها من ضعفها فى مواجهة السلطة فإن التوك توك يستمد قوته هو الآخر من ضعفه ومما أصبح يمثله من أهمية تتعلق بخلق فرصة عمل للشباب العاطل، علاوة على تخفيفه من معاناة الكثير من المصريين للانتقال بوسيلة أرخص كثيرا من وسائل المواصلات الأخرى.
وكما كان تراجع دور الدولة فى الرعاية الاجتماعية والاقتصادية سببا أساسيا فى خلق الفراغ الذى استغلته جماعة الإخوان للسيطرة على الشارع وبث أفكارها وسلوكياتها، فإن تراجع الدولة فى ضبط الشارع وتوفير وسائل مواصلات عامة يمكن الاعتماد عليها يعد السبب الأساسى فى خلق الفراغ الذى يستغله التوك التوك كما استغله الميكروباص سابقا بكل ما يرافقهما من سلوكيات شديدة السلبية على الشارع المصرى، لتسود لغة التوك توك على المجال العام بكل ما تسوق له ليس فقط من عدم احترام القانون بل - وإن ذلك هو الأهم - أنه لا يوجد عقاب لعدم احترام القانون أو بالأحرى أن عدم احترام القانون أقل تكلفة بكثير من احترام القانون نفسه. بتعبير آخر، فإن وضع التوك توك حاليا يعنى أن القانون عقاب لمن يلتزم به!
وإذا كان الأمر قد استغرق 80 عاما لتدفع الدولة ثمن سياساتها تجاه الإخوان المسلمين، فإن الوضع مع التوك توك لن يكون فى حاجة لتلك الفترة لندفع جميعا ثمن السياسة الحالية تجاه التوك توك. والدرس الأساسى من تجربة الإخوان هو أنه لا حل لمثل تلك الظواهر إلا المنع الحقيقى أو إجبارهم على الالتزام بالقانون. وبما أن المنع الحقيقى أو استئصال الإخوان كما التوك توك حاليا يبدو صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلا، فلا بديل عن اللجوء إلى إخضاعهم للقانون. بتعبير آخر، فإنه لا بديل عن تقنين وضع التوك توك وترخيصه ليتمتع بكل الحقوق ويلتزم بكل الواجبات التى يحددها القانون، شأنه شأن بقية وسائل المواصلات. تقنين وضع التوك توك هو الضامن الوحيد أمنيا واجتماعيا من التداعيات السلبية لتغول جمهورية التوك توك. وفى كل الأحوال فإن مصر لا تتحمل ظاهرتى الإخوان والتوك توك بوضعهما الحالى.