x

عمر حاذق لماذا يموت السجناء فى سجون مصر؟ عمر حاذق الثلاثاء 13-10-2015 21:41


لدىَّ الآن مشكلة! خرجت من سجن برج العرب يوم الأربعاء 23 سبتمبر 2015 بالعفو الرئاسى الصادر لمائة ناشط (من بين 40 ألف سجين سياسى). ومع الرغبة العارمة لأسرتى فى إسكاتى خوفاً علىَّ واجهت مأزقاً سخيفاً، أصبحت بغير قصد منى صوت زملائى المساكين القابعين فى السجن، ولأننى كاتب صار لزاماً علىَّ أن أتحدث بصوت هؤلاء الآلاف الذين لا يسمعهم أحد لأنهم يعانون معاناة لا يتخيلها من لم يدخلوا السجون المصرية، لأن هذه السجون لا يراقبها أحد ولا تطؤها الصحافة، إلا إذا اعتبرنا نشاط المجلس القومى لحقوق الإنسان رقابة. إذا تابعتَ سلسلة مقالاتى عن ذلك ستحكم بنفسك على هذا المجلس. وأنا أعدك من الآن ألا أكتب إلا ما عاينته بنفسى، لن أكتب حكايات سمعتها من زملائى إلا إذا أشرت صراحة لذلك فى موضعه، وسيكون قليلاً ما وسعنى. ثمة اتفاقات أخرى يتعين علينا أن نتفق عليها، أنت وأنا.

هل رأيت صورة عماد حسن، رحمه الله (السجين الذى مات بسجن العقرب لانعدام الرعاية الصحية)؟ كأن السلطة لم تسامح نفسها لأنها فرّحتْ قلوبنا وقلوب زملائنا فسارعت لإصلاح خطئها بتذكيرنا فى اليوم نفسه أو بعده بيوم: هذا واحد منكم، تلك هى حقوقكم، ممثلة فى صورة جثمان عماد فى المشرحة، الذى صار أقرب للهيكل العظمى من وطأة المرض. بعض النشطاء وضعوا معها صورته فى ميدان التحرير أيام ثورة يناير ممتلئاً صحة وعافية ونضارة، إنها رمزية واضحة للمشهد الحالى، أولئك ثوار يناير الآن. فى إحدى قصائدى بالسجن وصفتُنا، نحن أبناء يناير، بأن الأمراض والفئران تأكل أجسادنا أكلاً فى السجون كأننى كنت أرى صورة عماد، رحمه الله.

الذين سيقولون إن عماداً رجل إخوانى أو إرهابى سأطلب منهم ألا يكملوا هذا المقال، لأن إنسانيتهم ووعيهم لا يسمحان لهم باستيعاب ما سأطرحه. ثمة قانون، وما من نص قانونى ولا دستورى ولا إنسانى ولا أخلاقى يسمح بمعاملة أى سجين، مهما أجرم، بهذه المعاملة. القانون ينص على العقوبة، التى هى الحبس مدة من الشهور أو السنين، العقوبة هى مدة الحبس وليست إساءة المعاملة أثناء مدة الحبس. ما من قانون فى العالم يسمح بإجبار السجين على العيش بطريقة غير إنسانية، غير أنه فى السجون المصرية يُداس القانون دوساً، رغم الكلام الكثير الذى نسمعه عن هيبة الدولة وتطبيق القانون ومحاربة الفساد.

الذين يبررون القمع بأنه يقع على الإخوان، رغم وقوعه على غيرهم أيضاً، يحزنون كثيراً على رجال الجيش والشرطة الذين يغتالهم الإرهاب، والحق أننى أحزن كثيراً على مجندينا الغلابة وعلى كل إنسان يفقد حياته دون ذنب يستحق به ذلك، ولا يفكر هؤلاء أن الحاضن الرئيسى للإرهاب هو هذه الأماكن الرهيبة التى يظل السجين يشعر فيها بأنه لا شىء، ويرى أهله يُهانون أمامه، مع تفنن إدارة السجن فى التضييق عليه ومنع الطعام من الدخول فى الزيارة ليضطر إلى تناول الطعام الميرى الذى هو غاية القذارة والرداءة، حتى إننا كنا نخرج قطعاً من الزجاج من الرز، ورأيت بنفسى صراصير تسبح فى الطبيخ... وأبشع كثيراً من ذلك ستقرؤه فيما يأتى.

تلك كانت مقدمة ضرورية، أعود إلى ما عاينته بنفسى أثناء سجنى، بعد أن كانت أمواج المحبة تغمرنى من الأهل والأصدقاء، فتشغلنى عن الكتابة، عاد نظام السيسى فذكَّرنى بما ألزمت به نفسى لحظة طالعت صورة عماد، رحمه الله. رأيتُ بعينىَّ آثار التعذيب على سجناء قادمين من الأقسام والمديريات، ورأيتُ فى سجنى الحضرة وبرج العرب ضباطاً ومخبرين يضربون سجناء سياسيين وجنائيين ضرباً مبرحاً مهيناً، بأيديهم وأرجلهم وسياطهم وعصيهم، بلا رحمة.

منذ أسابيع جاء عنبرنا سجين سياسى من التأديب (وهو عنبر مخصوص زنازينه رهيبة بلا حمامات لمعاقبة السجين الذى يخالف القواعد)، كان عجوزاً ريفياً، فى حال مريعة من الضرب، مبللاً تماماً بماء قذر ظننت أنهم دلقوه عليه، فحكى لى أنهم زحّفوه فى الماء القذر فى أثناء علقة معتبرة رأيت آثارها صارخة على جسده. دعنى أذكّرك أننى أحكى ما رأيته بعينى.

أهذه انتهاكات صحية فحسب؟ كلا، بل أكثر كثيراً، لذلك دعنى أختم مقالى هذا بمشهد لن أنساه ما حييت: كنت فى سجن الحضرة، أواخر يناير 2014، حين سمعنا صراخاً ممزوجاً بالعويل والتوسل. نظرتُ من «النضارة» (فتحة مستطيلة صغيرة فى باب الزنزانة الحديدى تبين العينين فحسب لنتمكن من الكلام مع أى شاويش أو ضابط بينما الباب مغلق)، فشاهدت فى الممر المقابل لنا سجيناً جنائياً عارياً إلا من البوكسر، على البلاط فى برد طوبة، والمخبرون يتنافسون أمام الضابط فى إشباعه ركلاً وضرباً بالعصى والسياط، بينما الرجل يتوسل ويتذلل باكياً. الأفظع من ذلك هو طريقة تثبيت الضابط لجسد السجين على الأرض كى لا ينجو من الضربات، السجين ممدد على الأرض والضابط واقف، واضعاً قدمه، بحذائها، على صدر السجين المتوسل الباكى... لم أشهد فى حياتى إنساناً يثبت إنساناً بوضع قدمه، بحذائها، على صدره.

حسناً، سأتوقف قليلاً لأننى عاجز تماماً عن التقدم نحو موضوع المقال الأساسى: لماذا يموت الناس فى سجون مصر؟ فكِّر معى فى أسباب الإرهاب، ألا يكون أهمها هذا القصد إلى إذلال الناس وامتهانهم هكذا؟ فإذا أردنا حماية أرواح الجنود الأبرياء ألا ينبغى علينا أن نحسن معاملة السجناء بدلاً من جعلهم أنوية صغيرة لإرهاب وحشى لن يرحم أحداً؟!

سنهدأ، أنت وأنا، ثم نعود فى المقال التالى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية