إذا كان التخلف سوف يظل هو السمة التى يتصف بها العالم العربى من المحيط إلى الخليج، وسط فتن طائفية وأزمات عرقية، تغذيها دول وحكومات من داخل المنطقة، بعد أن كانت تقتصر على الجماعات والأفراد، فمن الطبيعى أن تسعى القوى العظمى إلى استغلال هذه الأوضاع لتحقيق مصالحها، بتفتيت هذه الدولة التى تبدو قوية إلى حد ما، مثلما حدث مع العراق، أو تدمير هذه الدولة التى تبدو متماسكة عسكرياً، كما حدث مع سوريا، أو تخريب هذه الدولة لضمان الحصول على نفطها مهرباً بأقل الأسعار، مثلما هو الحال مع ليبيا، أو إزعاج هذه الدولة كى تلجأ إلى شراء المزيد من السلاح، كما هو الحال مع مصر، وفى نفس الوقت تحقيق مزيد من الإخضاع للآخرين، كما هو حال دول الخليج.
ووسط هذه الحالة التى لم تظهر فيها أى بوادر لقيادة حقيقية من داخل المنطقة، لأسباب مختلفة، أهمها تردى الأوضاع الداخلية للقيادة التاريخية الممثلة فى الدولة الأم، أو شطط القيادة البديلة الممثلة فى دولة رأس المال، جاء التدخل العسكرى المباشر للدب الروسى لإنقاذ مصالحه هو الآخر مع آخر حلفائه بالمنطقة، بعد أن سقط الحليف الليبى بين ليلة وضحاها، فى وقت كانت الأوضاع الداخلية لدى موسكو لا تسمح حتى بالامتعاض، مع بوادر أزمات خارجية فى القرم، وتفاعل أزمة الغرب مع إيران حينذاك.
ومع التسليم الطبيعى بين الدول الكبرى بمناطق النفوذ، رغم بعض التصريحات، ذراً للرماد فى العيون، مازالت بعض العواصم العربية لا ترى المستجدات على حقيقتها على أرض الواقع، إما بحكم ضعف النظر، وإما بحكم اختلال العقل، التصريحات كما هى، الممارسات كما هى، إضافة إلى بيانات من علماء الدين بالجهاد والنضال والقتال، وكأن الغزو الأمريكى للعراق كان استناداً لآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، أما التدخل الروسى فى سوريا، بناء على طلب من القيادة السورية، فأمر يفتقد إجماع العلماء مثلاً.
هى محاولات لاستعادة الحالة الإسلامية فى بداية الغزو السوفيتى لأفغانستان فى نهاية عام ١٩٧٩، إلا أن هذه المحاولات لم تأخذ فى الاعتبار أن الحال ليس هو الحال، المفاهيم تغيرت تماماً، لم تعد هناك ثقة فى من يقفون خلف هذا الطرح، على الرغم من أن الحدث الآن عربى، يتعلق بدولة من دول المنطقة، وليس بإحدى دول آسيا الوسطى، ناهيك عن أن العلماء، سواء من وقّعوا على البيان أو غيرهم، لم تعد مكانتهم لدى الرأى العام أيضاً كما كانت من قبل، نتيجة متغيرات عديدة، ساهمت فيها عواصمهم التى استغلتهم لدعم سياساتها، فى مواجهة المواطن أيما استغلال.
بذلك أصبحنا نفتقد السياسيين من أهل الخبرة، كما العلماء من أهل الثقة، وهو الأمر الذى يجعل العالم العربى تحديداً، ولعقود عديدة مقبلة، فى وضع لا يحسد عليه، مما يتيح للآخرين تنفيذ مخططاتهم بأقل تكاليف، وإن كانت فمن الخزائن العربية، والدماء العربية أيضاً، وقد تظهر فى نهاية المطاف العديد من الزعامات، التى هى فى حقيقتها صناعة خارجية، مثلما كان الأمر فى أعقاب سايكس بيكو، ومثلما هو الحال فى أعقاب كل الثورات العربية، لتنصيبها على رأس الدويلات الجديدة التى تحدثت عنها الصحف الأمريكية مؤخراً، ونشرت خرائطها، والتى تصل إلى ١٨ دويلة حديثة العهد، نتاج التقسيم الجديد.
المثير للانتباه والدهشة فى آن واحد هو أن تجمعاً إقليمياً مهماً كجامعة الدول العربية لم يبادر إلى أى إجراء من أى نوع، فى صورة اجتماعات حتى لو على مستوى المندوبين الدائمين، لمناقشة أمر مهم كالتدخل العسكرى الروسى المباشر على أراضى إحدى الدول الأعضاء، فيما يشير إلى أن الخلافات تحت الرماد ساخنة إلى الحد الذى لا تفيد معه اللقاءات، ولا تجوز معه المواجهة، ومن جهة أخرى فإن إقصاء السلطة السورية الشرعية عن عضوية وفعاليات الجامعة منذ قمة الدوحة عام ٢٠١٣ كان خطأ كبيراً، جعل من أى اجتماعات الآن فى هذا الصدد، كالحرث فى الهواء، وهو ما تعيه القيادات العربية التى لم تسع إلى تصحيح هذا الخطأ مع تطورات الأوضاع بشكلها الحالى، نزولاً على إرادة دول رأس المال.
ومن هنا يمكن القول إن هذه المرحلة تعد الأسوأ والأضعف على الإطلاق فى تاريخ جامعة الدول العربية منذ إنشائها عام ١٩٤٥، بل ما هو أكثر من ذلك، يمكن أن تكتب التطورات المقبلة بالمنطقة شهادة وفاة طبيعية للجامعة التى لم تكن أبداً فى أى من مراحلها على المستوى الذى ينشده المواطن العربى بصفة عامة، ولنستعد إذن لتحالفات وتجمعات إقليمية جديدة بالمنطقة طائفية وعرقية، فى ضوء ظهور الدويلات الجديدة، التى أراها واقعاً، فى ظل استمرار القيادات العربية الحالية، ومن بين هذه الدويلات دويلة الفاتيكان الإسلامية، أو أياً كان مسماها، الذى قد يكون اختاره هنرى كيسنجر، أو برنارد لويس، أو حتى رالف بيترز.
وللحديث بقية.