x

أيمن الجندي «يلعادوا كودوا» أيمن الجندي الجمعة 09-10-2015 20:50


هذا الولد وأحواله العجيبة! ليس فقط أن والده ألقى نطفته فى رحم أمه كنوع من «الاستخسار» عندما وجد البيت- المكون من غرفة واحدة- خاليا من العيال! ولا حتى أنه خرج إلى الدنيا ابن ستة شهور وكأنه يتعجل القدوم إليها! ولا تلك الكلمة المدغمة «يلعادوا كودوا» التى لفظها منذ شهوره الأولى قبل أن يتعلم الأطفال الكلام! ولا قدرته الغرائبية على رسم أشياء مدهشة لا يرسم غيرها.

لم يكن الولد مهما لدى أحد قبل قدومه أو بعد قدومه. فأمه لم تكف عن تنظيف المنازل بالأجر حفاظا على حملها، وحين خرج فى غير الموعد المعتاد برأس محدب حليق من الشعر منهك البنيان، فإن مواردهم لم تسمح بأى نوع من الرعاية، وحين أخبرهم الطبيب بحاجته إلى حضانة للمبتسرين ناقصى النمو، ويستحسن أن تكون فى مستشفى خاص لأنه لا توجد أماكن شاغرة، فإن أهله التزموا الصمت البليغ.

بمعجزة ما استطاع الأطباء تدبير مكان فى حضانة المستشفى المجانى. كان الأطباء يتوقعون موته فى أى وقت، ولكن الولد أثبت إصرارا غير عادى على الحياة. الأمر الذى أثار دهشة الأطباء وشغفهم. ثم تحول بالنسبة إليهم لأيقونة لقدرة الإرادة الإنسانية على مغالبة الموت والاستمرار فى الحياة.

عندما عاد الولد إلى البيت ذى الغرفة الواحدة، تقسم أمه أنها سمعته وهى تسلق البطاطس يقول شيئا ما. كانت الحروف متداخلة وبصعوبة استطاعت تمييز أنه يقول: «يلعادوا كودوا». ضحكت الأم مثل أى امرأة عاقلة وعادت لتضبط النيران قبل أن يفور السليق.

كانت الحياة فى هذه الغرفة المكتظة أمرا غير آدمى بحال. وكان الضجيج لا ينقطع عن الغرفة ذات الحوائط الباهتة والأرضية المتآكلة. وكلما علا ضجيج الأطفال صرخ الولد: «يلعادوا كودوا» فيضحك الجميع.

عندما بلغ الولد العام لم يكن متوثبا للحبو توطئة للمشى كسائر الأطفال. ظل كما هو برأسه الحليق المحدب وملامحه التعيسة والذباب الذى يحط على عينيه لكن نداءه الغامض «يلعادوا كودوا» صار يتضح بالتدريج. أخوه ذو الخمسة أعوام أثار النداء اهتمامه فأصبح يرابض أمام الولد فى انتظار صيحته الشهيرة التى لا تخرج إلا عندما ينزعج، وأحيانا يضربه ليسمعها: «يلعادوا كودوا».

عندما أصبح عاما ونصفا فإن صديق أخيه الأزهرى قال إنه ينطقها بالتشكيل. وتلقت الأم بفخر كلام الفتى الأزهرى عن ابنها الأعجوبة الذى يعرف النحو، ثم عادت لسلق البطاطس.

حينما أمسك الولد القلم لأول مرة فإنه استطاع باحتراف عجيب أن يرسم منظورا أفقيا لنهر زاخر، وعلى ضفافه أطفال ملائكيون. وكيان نورانى يُخرج منه نجوما وزهورا وفراشات. ثم يصرخ الولد وهم يشطب على النجوم والزهور والفراشات بغلّ: «يلعادوا كودوا».

………

ما لا يتذكره البشر أبدا، باستثناء هذا الطفل، أنه فى اللحظات التى تسبق الخلق، يتجمع الأطفال الصغار المنتظرون نفخ الروح فى أجسادهم المحتملة، فيحكى لهم الكيان النورانى عما ينتظرهم فى الأرض من أشياء جميلة كالنجوم والزهور والفراشات.

لكن الولد حينما هبط الأرض متحمسا لم يجد إلا بؤس المصريين. لذلك صار يتملكه الغضب كلما تذكر الهراء الذى قيل له، وعلى أثره وافق على الهبوط إلى الأرض، فيصرخ صرخته المعتادة «يلعادوا كودوا».

وفى لحظة هدنة مؤقتة من الصمت، فى الغرفة المزدحمة بالأجساد النهمة، التى تبحث عن شىء تأكله، صاح أخوه فجأة منفعلا باكتشافه:

«ماما أنا فهمت هو بيقول إيه، بيقول: يلعن أبوكده».

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية