وكأن شيئا لم يتغير منذ زمن نكسة سايكس بيكو 1916 حتى زمن الثورات العربية الوهمية فى الألفية الثالثة، أى بعد مرور قرن كامل، ففى الزمن الغابر لم يكن هناك إعلام من أى نوع إلا ما ندر من صحافة المقالات، وبعض الأخبار التى تأتى متأخرة، بعد خراب مالطا، والتى كان مصدرها عواصم دول الاستعمار، حتى جاء زمن النكسة التالية فى 1967، فكان الإعلام قد تطور إلى صحافة وكالات الأنباء (التيكرز)، وتليفزيونات الدولة الرسمية، إلا أنه لم يكن إعلاما موجها فقط، بل كان مضلِّلا أيضا إلى الحد الذى أفسد المجتمع ثقافيا، وسياسيا، واجتماعيا.
ففى لحظة ما صدّق الناس أن قواتنا أسقطت مائتى طائرة للعدو خلال بضع ثوان، أو أسرت آلاف الجنود خلال بضع دقائق، أو أننا على أبواب تل أبيب خلال بضع ساعات، والحقيقة المُرَّة هى أن قوات العدو قد احتلت ثلث مساحة مصر، وأصبحت على بعد مائة كيلومتر من القاهرة، ناهيك عن احتلال أراضى دول أخرى عربية فى التوقيت نفسه فى هزيمة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ولا سببا أكثر من أن مجموعة فاسدة متسلطة كانت على رأس السلطة فى البلاد، وعلى رأس القوات المسلحة فى آن واحد، فى درس مرير كان يجب أن نخرج منه بدرس أهم، وهو أنه لا يجوز أبدا الخلط بين السلطتين المدنية والعسكرية فى آن واحد.
أخذت الأوضاع تتطور فى العالم العربى شيئا فشيئا نحو ديمقراطيات وهمية، وتعددية سياسية محسوبة بدقة، إلا أن الرأى العام كان دائماً محل اعتبار، ولو بنسبة ما، سواء فى دول الملَكية والتوريث، أو فى دول الجمهوريات سواء بسواء، إلا أن سيطرة الأنظمة فى هذه وتلك على الإعلام لم تتراجع، إلا قليلا فى بعضها، وبصفة خاصة بعد دخول الإعلام الخاص ساحة المنافسة، ما أسفر عن نسبة من التقاط الأنفاس هنا أو هناك، وتفاوتت هذه النسبة من عاصمة إلى أخرى.
ففى الحالة المصرية، على سبيل المثال، كانت قد اتسعت وللحق مساحة التعبير عن الرأى إلى حد كبير، على الأقل من خلال الصحف الخاصة، علها تساهم فى امتصاص حالة الغضب الجماهيرى جراء ارتفاع الأسعار مثلا، أو تردى وضع الخدمات والمرافق، أو اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، بدءاً من حالة احتقان واضحة، استغلتها عواصم خارجية ومنظمات داخلية فى آن واحد، أسفرت فى النهاية عما أسفرت من أحداث 25 يناير 2011، التى عادت بالبلاد اقتصاديا إلى عشر سنوات مضت، وسياسيا وحقوقيا وإعلاميا إلى خمسين عاما.
ولم تُخْفِ القيادة السياسية هذا التوجه، فقد أعلن رئيس الدولة صراحة أنه يريد إعلام عبدالناصر، فى إشارة إلى إعلام الاتحاد الاشتراكى فى زمن جمال عبدالناصر، وبالفعل تم تمكين هذا التيار الفاشل من المشهد الإعلامى الرسمى على الأقل، كما نُقل عن الرئيس قوله إنه يسير على خطى الخمسينيات والستينيات، فى إشارة إلى زمن الأرض المحتلة، والاقتصاد المهترئ، والفقر المدقع، وهكذا أصبحت مصر قلب الأمة العربية هى النموذج الصارخ لما آل إليه حال الإعلام وحقوق الإنسان فى العالم العربى الآن من تراجع، بعد أن أصبح لا صوت يعلو فوق صوت القوة، وإلا فإن البديل لذلك هو الخراب والدمار والاقتتال الداخلى، كما هو حال مَواطن أخرى حولنا، أو هكذا أشاعوا فى روع العامة.
فى ظل هذه الظروف، كان من الطبيعى أن تعلو أصوات غربية، وأمريكية، وإسرائيلية تتحدث عن ضرورة تقسيم جغرافيا هذا العالم المتخلف حقوقيا وإعلاميا، خاصة أن الرأى العام لم يعد يقف على الحقيقة فى أى مجال ما، فى ظل هذا التضارب والتعتيم والتضليل الإعلامى الشائع حاليا حول معظم القضايا المثارة بالمنطقة داخليا وخارجيا، ففى الوقت الذى نتحدث فيه على سبيل المثال عن هدم الأنفاق بين مصر وغزة، حتى لا تتسلل إلينا الأسلحة أو المسلحون من الجانب الآخر، يخرج علينا ديفيد باتريوس، مدير المخابرات المركزية الأمريكية حينئذ، وكان أيضا قائداً للقوات المركزية الأمريكية، ليشيد بالدور المصرى الذى أغلق من خلال هذا الإجراء أهم منافذ وصول السلاح إلى المقاتلين فى غزة، وفى جلسة استماع أمام الكونجرس قال: «هذا تطور كبير ومساعدة بالنسبة لنا».
وفى الوقت الذى نتحدث فيه عن ضرورة مواجهة الإرهابيين فى سيناء، لما يشكلون من خطر على الأوضاع فى مصر، تخرج من جانبنا تصريحات رسمية أيضا تتحدث عن ضرورة القضاء عليهم لما يشكلون من خطر على إسرائيل، وفى الوقت الذى نتحدث فيه عن أن المحاولات الخارجية لإسقاط الرئيس السورى تُعد تدخلا فى شؤون دولة مستقلة، نفاجأ بتصريحات رسمية تتحدث عن أن سقوط الأسد يمثل خطرا على إسرائيل، ومن هنا فنحن ندعمه، أين الحقيقة إذن، وإلى متى ثقافة التغييب العقلى، رغم التطور الحاصل فى العالم؟! وهى الثقافة التى عادت بنا إلى عبادة الفرد، وسط مستقبل ضبابى على كل الأصعدة، كما هو حال كل المنطقة، فمازلنا حتى الآن نقف على الحقيقة فقط من خلال العالم الخارجى، كما كان زمن الاستعمار تماما، زمن سايكس بيكو.
وللحديث بقية.