x

عمرو الزنط عن ذكرى على سالم عمرو الزنط الجمعة 09-10-2015 20:51


تحدثت فى المقالين السابقين عن موت الكاتب على سالم. ثم عن شهادته، على سالم لم يَمُت شهيدا، إنما كشاهد على عصر. أريد هنا إتمام الحديث عن الكاتب بفصل عناصر فكره المهمة التى قد تبقى بعد فنائه، فهذا ما يفصل بين الفكر والفن الراقى والآخر الفانى.

لقد اهتم على سالم بقراءة كوميديا الإغريقى العظيم أريستوفانس، ونصح بقراءتها جيدا.. العملاق اليونانى القديم كان يكتب عن أوضاع مر عليها الآن حوالى 2500 سنة، فى ظروف تبدو مغايرة تماما عن واقعنا الحالى، لكن مَن يقرأ مسرحية «الضفادع» مثلاً يكتشف أن معظم ما يعرفه من مواقف و«قفشات» كوميدية حديثة ومعاصرة موجودة أصلا فى التصميم الدرامى الذى ابتكره أريستوفانس، حتى ربما سيشعر المرء بأنه يتابع عملا معاصرا، ربما حتى حلقة من مسلسل تليفزيونى كوميدى.. لذلك ففى مشاهد أريستوفانس الخالدة، مغزى عن طبيعة البناء الحضارى التراكمى عبر الأجيال، فى «التناسل» الفكرى والطفرة الإبداعية، أى عن طريق احترام وحفظ التراث، ثم التجديد فى صورة الإبداع المشبع بقوة تراكم المعرفة.. حتى يكون الابتكار متسماً بالقوة التى تنبع من صراع المبدع مع التراث والتقليد، فقوته مستمدة من صعوبة التجديد وكسر القيود بطريقة منظمة فى ظل وجود تراث جبار بناه عمالقة مبدعون ومنضبطون فكرياً فى نفس الوقت.

هل لعلى سالم مكان بين عمالقة التراكم الحضارى؟ إذا نظرنا للتراث الإنسانى عامة فربما لن يكون له مكان مرموق فى التاريخ الفنى والفكرى بطريقة مباشرة- فلم تكن له إبداعات جذرية فى أسلوب صياغة الفن المسرحى وطرقه، أو تعبير مبتكر عن نظرة الإنسان ومكانه فى الكون- لكنى أعتقد أنه عندما سينظر مؤرخو المجتمعات والفن فى الحقبة التى عاش فيها على سالم فسيجدون له أهمية مركزية كمعبر عن الحالة الإنسانية، منعكسة فى كوارث منطقة أخذت فى التأزم الحاد والصراع مع العالم المعاصر على مدى حياته الإبداعية، التى انتهت فى ظل تفكك وانهيار المجتمعات المحيطة ببلده، وتلاشى آمال التحرر فى بلده ذاته، والقبول البائس المهزوم بالقبضة الحديدية كخيار أوحد فى سبيل تفادى الفوضى المطلقة والخراب.

من أين يأتى الخراب؟ أعتقد أن على سالم اعتقد أنه نابع من الانهيار الأخلاقى المدمر للأسس التى تُبنى عليها الحضارة.. بدون أخلاقيات ليس هناك احترام وثقة بين الناس بمؤسسة لمجتمع متماسك، وليس هناك فكر أو إبداع بانٍ للحضارة، لأن فقدان الأخلاقيات يصحبه فقدان للبهجة، والفضول المؤسس للفكر المركب والعلم المتعمق والفن الراقى.. فكما أشرت فى المقال السابق، فمسرحيته الأشهر (مدرسة المشاغبين) تحكى فى جوهرها عن أوضاع الانهيار، التى بدت واضحة بطريقة مؤلمة فى العقود التى تلت عرض المسرحية الأول. تحدثت أيضا عن الفيلم البريطانى، الذى قال البعض إن على سالم استوحى أو سرق منه المسرحية. رغم الفروق الجوهرية، التى تثبت قدرة إبداع المسرحى المصرى، فهناك فعلا نقاط مشتركة بين العملين، لأن الموضوع مشابه فى الحالتين: الفيلم يتكلم عن كيفية ترويض المشاغب ليصبح عضوا عاملا فى مجتمع متحضر، والمسرحية تتحدث عن انهيار أسس التحضر فى المجتمع. فى الواقع فإن الفيلم كان أوضح فى سرد تلك الأسس، لأن «سالم» اعتمد على قدرته كمبدع درامى لتفادى التلقين المباشر، فموضوعه كان أعمق.

الأسس الأخلاقية- الحضارية التى شغلت على سالم تتجسد فى الإحساس الأعمق بالمسؤولية الذى يصاحب إحساس الفرد بالاستقلالية واحترام الذات، ليقينه بأنها غير مجوفة تافهة، بل فى جوهرها عقل متأمل فى التسامح النابع من انضباط ينبذ غرائز التسلط والصراع العبثى المدمر للذات وللآخر ورغبة الانتقام المبنى على نزعات الإذلال التى تتعرض لها ذاته، فى أن الثورة الحقيقية على أوضاع مرفوضة تكون مؤسسة أولاً على استقلالية العقل الحر وليس على روح القطيع ومحاولة التسلق فى سياقها، فى أن الإنسان لا يعيش فقط من أجل التسلق والصراع فى سبيل ابتزاز الآخر، وأنه يجب أن ينظر إلى المصلحة العامة إذا كان لا يريد أن يعيش فى بيئة منهارة ينتشل فيها كل شخص ما يمكن أن «يهبشه» وسط الخراب، حتى لو كان ناجحا و«ناصحا» فيما يفعل، فى أن الأفكار (بما فى ذلك الدينى منها) لا تُسَخَّر قسرياً لأهداف نفعية وتسلطية، (فلا يمكن مثلاً إسكات الآخر بمجرد التهديد بالقول: «اعترضى على كلام ربونا بقى»، كما فعل سعيد صالح فى المسرحية الشهيرة!).

أعتقد أنه إذا نظر المؤرخ لأعمال وفكر على سالم من هذه الزوايا فسيجد الكثير مما يشرح الأزمة الكبرى التى مزقت العالم العربى فى نهاية حياته، فأساسها أخلاقى، وفيها أوجه تشابه مع ما لاحظه أريستوفانس نفسه فى عالم إغريقى كان مقبلاً على الانهيار.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية