حينما تعاونت المملكة العربية السعودية مع التنظيمات السنية المتطرفة فى العراق وسوريا، والتى توجتها فى النهاية بما تسمى داعش، كانت تعتقد أن هذا هو المخطط الأمثل لمواجهة الأنظمة الشيعية فى كل من إيران والعراق، إضافة إلى العلويين فى سوريا، وحزب الله فى لبنان، المخطط السعودى هنا لم يأخذ العبرة من سيناريو المقاومة أو الجهاد فى أفغانستان، وفى غير أفغانستان.
أذكر فى عام ١٩٨٧ وفى خضم الجهاد الأفغانى ضد الغزو السوفييتى آنذاك، وبينما كنت هناك فى مهمة صحفية بجبال الهندكوش شاهقة الارتفاع، جاءنى شاب طويل القامة، عريض المنكبين، أسود البشرة، يتحدث العربية بطلاقة قائلا: أنت الصحفى المصرى، قلت نعم، قال أبحث عنك منذ ثلاثة أيام، منذ علمت بوجودك، قلت خيرا، قال لأهديك هذا الكتاب، أمسكت بالكتاب فوجدته (الكواشف الجليّة فى كُفر الدولة السعودية)، هكذا هو اسمه، دون زيادة أو نقصان، بصراحة كان العنوان صادما لى، لأول مرة أرى مثل هذه النوعية من الكتب، وإن كنت بعد ذلك اكتشفت أن هناك منها الكثير، المهم أن الكتاب بنظرة سريعة طباعة باريس، تأليف الدكتور فلان، وتقديم الدكتور فلان، بما يعنى أن العملية ليست صناعة بير السلم، أو أى شىء من هذا القبيل.
سألت صاحبنا، هل أنت من السعودية، قال بسرعة فائقة، أنا من الجزيرة العربية، قلت من أين فى الجزيرة العربية، قال من الحجاز، قلت يعنى من السعودية، قال ليس اسمها السعودية، اسمها أرض الحجاز، وكانت هذه النزعة بالنسبة لى أيضا اكتشافا جديدا، ثم تواصل الحديث فقال إن النظام فى مصر كافر، لأنه لا يحكم بما أنزل الله، والنظام فى ليبيا كافر، لأنه استعاض عن كتاب الله بالكتاب الأخضر، ونظام حافظ الأسد كافر، لأنه من النصيرية الذين كفرهم ابن تيمية، ونظام آل سعود كافر، لأنهم أهل فسق وربا وفجور، ونظام الخومينى كافر، لأنهم من الروافض، أتصور لولا أننى متماسك، وكنت قد اعتدت الصدمات منذ بداية هذه الرحلة، لأُصبت بلوثة عقلية.
ما أريد قوله، هو أن هذه كانت النظرة إلى السعودية، من المجاهدين العرب السُنة- أكرر السُنة- الممولين حينذاك أيضا من السعودية، التى كانت إضافة إلى بقية دول الخليج تقوم بالإنفاق المدنى والعسكرى على المجاهدين العرب وغير العرب، وذلك بتعليمات أمريكية لم تكن تقبل المناقشة، بل إن أكثر من ٩٠٪ من الشباب العرب فى الجهاد الأفغانى قد وصلوا إلى هناك عن طريق جدة والرياض مباشرة، من خلال منظمة الدعوة الإسلامية الرسمية هناك فى ذلك الوقت، ثم بعد ذلك بقليل جاء إنشاء تنظيم القاعدة، وهو التنظيم الذى كانت له، ومازال، مواقفه المناوئة للسعودية ونظام الحكم فيها.
معنى ذلك أن أحدا لم يستفد من التجربة فى الحراك الحالى بالمنطقة، حيث جاءت صناعة داعش مشابهة تماما لسيناريو صناعة الجهاد الأفغانى، وتنظيم القاعدة، وهذه وتلك تخرج من عباءتها فى النهاية تنظيمات أكثر تشددا، لا تستطيع الأموال النفطية بمرور الوقت السيطرة عليها، وخاصة أن اتصالات العواصم أو الأجهزة الأمنية يكون مع قيادات هذه التنظيمات، وبالتالى فإن القاعدة العريضة تنشق بمجرد إحساسها أنها كانت ألعوبة طوال الوقت، وبين لحظة وضحاها ينقلب السحر على الساحر، وهاهى قوات داعش تتجول فى مدينة عدن اليمنية تحت سمع وبصر القوات السعودية والإماراتية، مادام أن الأمر يتعلق بمواجهة الحوثيين، ليطرح السؤال الأهم نفسه وهو، وماذا بعد انتهاء المواجهة مع الحوثيين، بالتأكيد سوف تكون المواجهة مع الرياض وأبوظبى فى آن واحد، هكذا تعلمنا من الأحداث، لأن إسلام هذه الدول لا يُرضى هؤلاء.
وإذا عُدنا بالذاكرة إلى عام ١٩٧٩ لنقف على أحداث اقتحام واحتلال الحرم المكى بقيادة جهيمان العتيبى، وغيرها من الأحداث الدموية المعلنة وغير المعلنة، والمستمرة حتى الآن، لأمكن لنا أن نعى أن تكفير النظام الحاكم فى السعودية ومناوءته كان حالة عامة طوال الوقت من التنظيمات السنية، وليس من المذاهب الأخرى فقط، وهو الأمر الذى كان يجب أن تعى معه أن نشر المزيد من التطرف والتشدد بالمنطقة، باستخدام الورقة الطائفية، ليس فى صالحها قبل أى أحد آخر، لسبب بسيط ومنطقى، وهو أن مثل هذه التنظيمات وغيرها من عامة الناس فى أنحاء العالم الإسلامى ينشدون فى الأراضى الحجازية الكمال والجمال، وأن أى تلوث أخلاقى بها قد يكون مدعاة إلى تطرف الوسطيين وليس المتشددين فقط.
على أى حال، اللعب أصبح على المكشوف، ولم يعد الإرهاب يتوقف عند التنظيمات، بعد أن أصبح صناعة عواصم.
وللحديث بقية.