في أيام كتلك الأيام من العام 1943، أقامت السعودية حد الإعدام على حاج إيرانى بتهمة إلقاء القاذورات على الكعبة المشرفة، والتلفظ بألفاظ غير لائقة بحق النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وقالت السعودية إن الرجل اعترف بجرمه قبل إعدامه.
ولم تتقبل إيران إعدام أحد مواطنيها بهذه الطريقة، واتهمت السلطات السعودية بالتشدد، وقالت إن الرجل أصيب بالغثيان أثناء الطواف مما أدى به إلى التقيؤ قرب الكعبة، وأرسلت إيران برسالة رسمية إلى السعودية قالت فيها إن الدولة الإيرانية تحتفظ بكامل حقها فيما يتعلق بهذا الحادث وما يتعلق بكل ما يترتب عليه من نتائج.
ونتيجة لهذا الحادث استدعى البلدان ممثليهم الدبلوماسيين لدى بعضهما البعض، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية بشكل رسمى عام 1944 قبل أن تعود مرة أخرى بوساطة عربية.
ومع قيام ثورة 1952 في مصر والإطاحة بالملكية، شعرت السعودية وإيران بخطر الانقلابات العسكرية التي كانت تهدد أنظمة الحكم الملكية، وفى عام 1955 توجه الملك سعود بن عبدالعزيز لزيارة إيران في زيارة ملكية هي الأولى من نوعها بناء على دعوة من الشاه، وبعد عودته دعت المملكة الشاه الذي لبى الدعوة وزار السعودية، وحضر الملك والشاه عرضا عسكريا في الرياض في علامة على التحالف بين المملكتين.
ومرت العلاقات الإيرانية السعودية بجولات من الصعود والهبوط في السنوات التالية حسمها الصراع في اليمن الذي هدد فيه الوجود المصرى بجنوب السعودية الغنية بالنفط بإمكانية سيطرة جمال عبدالناصر على المملكة الغنية بالنفط، وهو ما دفع إيران إلى إعلان دفعها بقوات عسكرية لحماية الحدود الجنوبية للسعودية والدفاع عنها بأى ثمن.
ولا يمكن قراءة موقف إيران الأخير من مقتل الحجاج في حادث تدافع منى بمعزل عن الصراع السياسى بين البلدين. وصحيح أن العنصر الطائفى يلعب دوره بين الدولتين اللتين ورثتا الصراع التاريخى بين الدولة الصفوية الشيعية والدولة العثمانية السنية، لكن العنصر الطائفى وحده لا يمكن أن يفسر الصراع الذي يقوم على عناصر أخرى سياسية واقتصادية تمثل حصة أكبر من الحصة الطائفية بكثير.
هذه الأوجه السياسية للعلاقات السعودية الإيرانية دفعت الجانبين أحيانا إلى تجاوز خطوط الطائفية لصالح المصلحة السياسية، مثل دعم السعودية للإمام محمد البدر حميد الدين الشيعى في اليمن خلال حربها مع عبدالناصر هناك، ومثل دعم إيران لجماعة الإخوان المسلمين السنية، وخاصة من ناحية فرعها حماس.
(لاحظ أن السعودية تقود اليوم حربها على الحوثيين الشيعة في اليمن بنغمة طائفية، بينما كانت تدعم نفس الشيعة وإمامهم عندما كان سقوطهم دعما لأحلام عبدالناصر في المنطقة التي كانت كابوسا لكل الممالك وعلى رأسها السعودية).
وبنفس الطريقة، نلمح تلاقى المصالح بين أعداء الأمس – تركيا وإيران – مع أي بادرة لاهتزاز السعودية، سواء كان هذا الاهتزاز من داخل بيت آل سعود وبسبب خلافاته، أو من داخل الحرم في حادث هنا أو حادث هناك، أو من خارج الحدود حيث تدور معركة السعودية على أرض اليمن، والتى تحالف فيها السعودية أعداء سابقين وتعادى حلفاء سابقين.
ودائما ما كان الصراع الطائفى وسيلة للتعاطى مع صراع سياسى له دوافعه الاستراتيجية أو الاقتصادية، وكان توظيف الطائفية الطريق الأقصر في كل مرة لشحن القاعدة الشعبية في المنطقة وراء هذه الدوافع الاستراتيجية والاقتصادية، فما أعقد أن تشرح السعودية لشعبها أن مصلحتها السياسية في هذه المرحلة تستوجب معاداة إيران، وما أصعب أن تشرح الجمهورية الإسلامية لجمهورها أن مصلحتها الاستراتيجية في هذه المرحلة تستدعى معاداة السعودية، بينما يظل الأسهل دائما أن تستدعى كل منهما تراث الخلاف السني- الشيعى الذي ستفهمه الشعوب فورا، وستستجيب له بالروح والدم.
حقيقة الأمر أن العداء الطائفى بين السنة والشيعة ليس جذر العداءات والتحالفات في منطقة الشرق الأوسط، لكنه وجه من أوجه هذه العداءات وهذه التحالفات كما نشأ أول مرة.. وهو نتيجة لإدخال الدين بضيقه الطائفى في ألعاب السياسة المتبدلة على حسب الأهواء والمصالح.