x

عمرو الزنط عن شهادة على سالم عمرو الزنط الجمعة 02-10-2015 21:25


تحدثت فى المقال السابق عن موت الكاتب على سالم. أريد أن أتكلم هنا عن شهادته كمفكر، كشاهد على تطورات عصره.. سأركز فى هذا المقال على مسرحية مدرسة المشاغبين، نظرا لشهرتها ومعرفة الناس- (بمن فيهم أنا!)- الوثيقة بها، ومن ثَمَّ تأثيرها الهائل على الثقافة الشعبية فى مصر والعالم المتكلم بالعربية، حتى صارت لغتها ومعظم مشاهدها جزءا من ثقافتنا العامة.

لقد تعرضت مسرحية المشاغبين لعدة انتقادات، من أهمها أنها لم تُثْرِ الحياة الثقافية فى مصر، بل ساعدت على سيادة الخراب الأخلاقى فيها. هذا انتقاد غريب فعلا، فمعناه أن على سالم قد اخترع نماذج وظواهر وسلوكيات لم تكن موجودة أصلا. لكن الحقيقة أنه حتى لو كان الحال كذلك، فإن من الصعب أن يكون تأثير مسرحية واحدة بهذا الحجم، حتى لو كانت ناجحة، فى غياب الاستعداد المؤهل لذلك التأثير.. على العكس، فنجاح المسرحية نفسه نبع بالقطع من وجود الاستعداد وأيضا الإحساس بالعبث المداهم، نتيجة ظروف لم يخلقها على سالم.

على سالم كان شاهدا على عصر مستقبلى لم يخترعه، لكنه تنبأ مبكرا بتداعيات بعض سماته، مسلطا الضوء على ظواهر كارثية لم تكن منتشرة بقدر كاف لكى تلاحظها النخب المعزولة عن واقع مصر خارج عالم الشعار وشوارع خيال شراذم الثقافة المفتتة. على سالم لم يكن معزولا مثلهم. تصوراته الفكرية كانت أكثر تماسكا، ولمسه لنبض البلاد كان وثيقا وحساسا.. وربما لذلك لم يكن له مكان طبيعى بينهم منذ البداية.

هناك انتقاد آخر تعرضت له المسرحية الشهيرة، فلم تكن فقط سببا فى إفساد أجيال من المصريين والعرب، إنما كانت مقتبسة (أو حتى مسروقة) من فيلم غربى. فى هذا السياق، «استورد» سالم الانحلال كله من الخارج لكى يُفسد به الأجيال (ثم أكمل دوره الشرير فى عملية التطبيع بالطبع).

الفيلم المعنى هنا هو «تو سير ويز لاف»، بطولة سيدنى بواتيه، والذى تم إنتاجه سنة 1967.. أعتقد أن مَن تبنى هذا الرأى لم يشاهد الفيلم، لأن النقد فى غير محله: أولا لسبب بسيط وبديهى، وهو أن الفيلم جدى جدا، وليس فيه شىء من الكوميديا تقريبا، على عكس نقد المسرحية الساخر، ثم إن شخصيات الفيلم مختلفة تماما عن شخصيات المسرحية، وتلاحمها مع بعضها مختلف (الفصل فى الفيلم الأمريكى مثلا يحتوى على تلميذات لهن دور محورى فى مجريات الأحداث، خاصة فى احتكاكاتهن مع الفتيان). أما السبب الأهم فهو فكرى، وفيه أساس نقد على سالم الاجتماعى فى مسرحيته الأشهر.

فى الفيلم البريطانى، يذهب المدرس لمدرسة فى الجانب الشرقى الأفقر من لندن ليدرس لتلاميذ من قاع المجتمع. فقر هؤلاء هو فقر مادى قبل أن يكون فقرا فكريا أو ثقافيا. أما أهم الشخصيات المشاغبة فى مسرحية على سالم فتبدو ميسورة الحال، (بل ربما أهلها من الأغنياء)، لكنها تفتقر إلى أى نوع من الإثراء الثقافى.. بل تحتقر القيم الفكرية من الأصل، وبطريقة فجة ليس لها مثيل على الإطلاق فى الفيلم البريطانى.

فى الفيلم البريطانى، يركز المعلم على تعليم الطلاب كيفية التعامل مع بعضهم البعض بطريقة متحضرة، كى يصبحوا أعضاء عاملين فى مجتمع متحضر. من ثَمَّ ينبع الصراع بين التلاميذ والمدرس.. أما فى مسرحية على سالم فيدور الصراع مع المعلم حول أساسيات الحضارة نفسها- كما فى المشهد الخالد عن أهمية المنطق، وإمكانية «تضييع» الحياة فيه، وحكمة أن «يُكَيَّل العلم بالبدنجان» من عدمه.

كشخص عمل لسنوات طويلة فى المجال العلمى فى الغرب، ثم فى مصر، لدىَّ تعليق على مسألة «تكييل العلم بالبدنجان» هذه. فى الغرب، خاصة فى الولايات المتحدة، يهتم الأثرياء بالتبرع لدعم المجالات الفكرية والثقافية والعلمية، فهذه طريقة لجلب السمعة الحسنة والصعود فى المجال العام (أو بالنسبة للعائلات العريقة فهذه مسألة ترتبط بشرف ونبل صورة العائلة).. هذه الظاهرة- (مع بعض الاستثناءات)- شبه منعدمة بين أثرياء مصر، لأن معظم الطبقات الصاعدة ماديا تتبنى وجهة نظر أبطال مسرحية على سالم عن علاقة «العلم بالبدنجان». لا أعتقد أن على سالم اخترع هذا الواقع أو عمل على بلورته، لكنه لمسه مبكرا.

ثم انتشرت وتوغلت تلك النظرة، حتى سيطرت على بعض قطاعات المجال الميرى، فحتى فى بعض الجهات الحكومية المسؤولة عن تطوير العلم ودعمه، نجد أحيانا نظرة دونية، لا لبس فيها، تجاه العلوم الأساسية، لأن ثمارها غير مباشرة وفورية فى صورة مادية.. هذا الاحتقار لأساسيات الحضارة ولغتها لا يختلف كثيرا من حيث المضمون عما لاحظه وعبر عنه على سالم منذ ما يقرب من نصف قرن. فى ذلك ربما تكمن أهم شهادة لعلى سالم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية