قبل سنين كان أهل الحكم يلقون صناديق الانتخاب فى الترع والمصارف ويستبدلونها بأخرى ملأوها باختيار واحد وحيد، أو يسودون البطاقات الانتخابية برموز الحزب الحاكم، فتخرج النتائج على مقاس رؤيتهم ورغبتهم ومنافعهم، ولأن هذا لم يعد ممكنا الآن بالصورة ذاتها فها هم يتحكمون فى المقدمات، فيحددون من يدخل السباق ومن يخرج منه، سواء فى أول الطريق أو منتصفه أو حتى قبل النهاية بخطوات.
نحن إذًا انتقلنا من تحريف المدخلات إلى تحديد المخرجات، أو من تزوير النتائج إلى تزييف المقدمات، تارة بأمر السلطة، وأخرى بترتيب أجهزة الأمن، وثالثة بيد من يملكون مالاً طائلاً من أتباع «رأسمالية المحاسيب»، الذين ألفوا الزواج بين الثروة والسلطة.
ولنعد إلى نقطة البداية..
لا يمكن لمن قرأ ووعى أن ينسى مقطعا من رواية توفيق الحكيم «يوميات نائب فى الأرياف»، يبين فيه عبر وصف وسرد بسيط وبليغ فى آن أو حوار جلى بين شخصيات قصته الجذابة ما كان يتم فى الانتخابات المصرية قبل ثورة يوليو، من ترك الناس ترمى أوراق تصويتها فى الصناديق كيفما شاءت ثم تقرر السلطة السياسية النتائج وفق مشيئتها، وهى النافذة والغالبة.
فى الرواية كان الفلاحون يحتشدون أمام اللجان، وكانت الصناديق التى ملأوها تُلقى فى الترع، وتحل أخرى محلها، تحدد من ينجح ومن يرسب، بطريقة ناعمة، لم تلبث أن صارت خشنة بعد ثورة يوليو وقبل ثورة يناير، حين كانت السلطة لا تكتفى بتبديل الصناديق، وتسويد البطاقات، والتصويت للموتى، بل استعانت بخارجين على القانون ومسجلى خطر ليمنعوا الناس من الوصول إلى اللجان، التى يقدر أهل الحكم أن للمعارضة فيها شوكة أو فرصة. وكل مقعد تم انتزاعه من أنياب السلطة طيلة هذا العهد الحافل بالفساد والعناد إما كان عن صفقة بين السلطة وبعض أطراف المعارضة، أو فى ظل تقاسم الوظائف وتوزيع الأدوار بين الأمن وجماعة الإخوان، إن دعت الضرورة، أو لهيبة اجتماعية جارفة لشخص معين كانت أجهزة الأمن تدرك أن التزوير ضده سيتبعه رد فعل عنيف، أو رغبة أحيانا فى ترك بعض الشخصيات تمر بحق ودون تدخل، كى تنفس عن شرائح وقطاعات اجتماعية خارج التمثيل السياسى الرسمى، ويُخشى من انفجارها.
بخلاف هذه الاستثناءات كانت النتائج محددة سلفا، فكل من كان أمين التنظيم بالحزب الوطنى الحاكم يعده بمقعد فى البرلمان كان يناله رغم أنف الشعب، فتحولت الانتخابات إلى عملية شكلية، وباتت المعارضة مدركة أنها مهما بذلت من جهد فى سبيل تعزيز حصتها فى «مجلس الشعب»، بما يمكنها من تصويب المسار وتصحيح السياسات أو جذبها نحو ما يحقق الصالح العام، فإنها لا محالة مهزومة، وأنها مهما بينت من عورات عملية الانتخاب وانتهاكاتها فإن صراخها يبتلعه الخلاء، ويرتد صداه تبجحاً وأذى من السلطة، التى كانت تترك المجلس قائماً حتى لو غرق فى البطلان تحت شعار «المجلس سيد قراره»، أو تحله إن تعارض مع ما يراه الرئيس باسم «احترام أحكام المحكمة الدستورية».
بعد ثورة يناير باتت الانتخابات تجرى تحت إشراف قضائى، وأصبح الفرز فى اللجان الفرعية بحضور مندوبى المرشحين الذين يوقعون على محضر الفرز قبل تعليقه على باب اللجنة أمام الرائح والغادى، وصار فوق كل صندوق كاميرا، حيث يغطى الإعلام المحلى والإقليمى والدولى كل شاردة وواردة، وبعض الفضائيات تحسب النتائج وتعلنها قبل أن تجمع اللجان الرئيسية الأرقام وتعيد حسابها اللجنة العليا توطئة لإعلانها بشكل رسمى، وهناك رقابة من منظمات مجتمع مدنى مصرية ودولية. وفى ظل هذه الأحوال أصبح من الصعب أن تفعل السلطة أو أصحاب المال ما كانوا يفعلونه فى كل الاستحقاقات التى جرت أيام مبارك، ولم يكن هناك بد من تغيير الطريقة، فبدلا من انتظار نتائج قد لا تأتى وفق توقعات السلطة وهواها ومصالحها يمكن التدخل بطرق شتى للتحكم فى المقدمات، تارة بتصعيب الإجراءات وجعلها عقبة أمام البعض، وأخرى باستعمال حق التقاضى وإصدار أحكام تُخرج هذا وتُبقى هذا، وثالثة بتدخل مباشر من قبل الأجهزة الأمنية، سواء فى القوائم أو المقاعد الفردية، وهى مسألة شكا منها كثيرون، ودللوا عليها فى تصريحات للصحف والفضائيات، وكذلك فى شكاياهم أوسع وأفدح داخل الغرف المغلقة.
ولعل السلطة تتعامل مع هذا الوضع على أنه مؤقت، فالذين يطالبون بتعديل دستور لم يطبق من قريب أو بعيد، ولم يجف الحبر الذى كُتب به بعد، لن يعدموا وسيلة فى إلغاء القانون الذى يفرض الفرز فى اللجان الفرعية، ومن يدرينا ربما يطالبون من جديد بإبعاد القضاء عن الانتخابات بدعوى عدم إقحامه فى العملية السياسية، مثلما فعل مبارك فى التعديلات الدستورية الواسعة سنة 2007.
قطعا ستكون لهذا، بل ولمجرد التحكم فى مقدمات الانتخابات، نتائج وخيمة...
إن مثل هذه التصرفات ستؤدى إلى ثلاثة أمور غاية فى الخطورة، أولها تضييق طريق البرلمان أمام شخصيات وطنية مستقلة أو معارضة بما يحرم البرلمان من كفاءات يمكن أن تضيف إليه، وتنهض بمهامه، وتطرح آراء وتصورات أخرى، تقود إلى تجويد الأداء وتحسين المخرجات فى الرقابة والتشريع. وثانيها هو حرمان فئات وشرائح اجتماعية من التمثيل السياسى، عبر شخصيات يرون أنها الأجدر بهذا الدور، وأنها هى التى يمكنها أن تدافع عن مصالح هذه الفئات تحت قبة البرلمان، وإن لم يجد هؤلاء من يعبرون عن مصالحهم فسيلجأون إلى وسائل أخرى كى يُسمع صوتهم، وستكون فى الغالب الأعم من خلال الاحتجاج المباشر فى الشارع. أما ثالث هذه الأمور فهو عزوف الناس عن المشاركة فى العملية الانتخابية، إن تيقنوا من التحكم فى مقدماتها ونزع المنافسة عنها والرغبة فى إنتاج برلمان على مقاس السلطة التنفيذية. وهذا العزوف سيجعل للمال السياسى والقوى الدينية المنظمة تأثيرا كبيرا على نتائج الانتخابات، إذ يمكن لمرشح أن يحصد المقعد ببضعة آلاف من الأصوات، كما كان يجرى من قبل، أما إن حضر التيار الشعبى العريض فى المشهد فلن يكون للمال والتنظيمات الدينية مثل هذا التأثير.
الويل كل الويل إن وجد الشعب برلمانا من المصفقين، فعندها سيفقد الأمل فى إمكانية التغيير من خلال تلك القناة العلنية السلمية الشرعية، وهى الانتخابات، بما يضطره إلى اللجوء لقنوات أخرى. وأجد نفسى فى هذا المقام أقول: «السلطة الذكية هى التى تدع المستقبل يولد على أكف الحاضر دون عنت أو عناء».