«الاقتصاد الطفيلى» مصطلح اقتصادى كنت أسمعه منذ نهاية السبعينيات، مثل مصطلحات كثيرة معقدة يرددها الأكاديميون منذ انفتاح «السداح مداح» حسب تسمية أستاذنا أحمد بهاء الدين، شاهدت أمس هذا الاقتصاد الطفيلى على الهواء مباشرة، صوت وصورة، وكأننى أشاهد فيلماً من أفلام السبكى، ذهبت مع صديقى لمكتب من المكاتب التى كلفتها سفارات أوروبا باستلام أوراق وطلبات فيزا الشنجن، المكتب فى عمارة فخمة أسفلها بنك شهير، وهذا معناه منطقة مكتظة بالسيارات والركن فيها شبه مستحيل، إذا تأخرت عن ميعادك فى مكتب الفيزا ربع ساعة فستضطر أن تأخذ ميعاداً آخر قد يستغرق شهراً كاملاً، لذلك أنت من الممكن أن تضحى بعشرين جنيهاً لقاء ركن العربية، مبلغ تدفعه عن طيب خاطر، بل تدفعه فرحاً مسروراً منشرحاً، الأستاذ «الركين» المسؤول عن ركن عربيتك هو بيت القصيد فى هذا المقال، عندما ركن صديقى السيارة وقفت أراقب هذا الشاب الركين صاحب المهنة العجيبة التى لا توجد إلا فى بلدنا المحروس، بالطبع اختيار هذا المكان هو اختيار ذكى وعبقرى وشرير ولئيم، فهو مرتبط بناس أو عملاء متسربعين، سواء فى مكتب الفيزا أو فى البنك، ولذلك إكرامية الركن لن تكون من نوعية الفكة الهايفة، ولكنها لن تقل فى أى حال من الأحوال عن الخمسة جنيهات التى ينظر إليها شزراً وبمنتهى القرف، وذلك إن قبلها أصلاً، أما عن رأسمال الركين فهو أعجب رأسمال شاهدته فى حياتى، رأس المال أو اللوجيستيات اللازمة لهذه المهنة العجيبة المخترعة العشوائية هى عبارة عن جذع شجرة وثلاث كتل حجرية وخمس فرد كاوتش، منها ما هو للنقل ونصف النقل والملاكى، حسب حجم العربية الراكنة، وكرسيان لا يملكان من صفات الكراسى إلا الهيكل والأربعة أرجل!!،
هذا هو رأس المال باختصار، يوزعه الشاب الركين بجانب الأرصفة فى مناطق استراتيجية بحيث لا تستطيع سيارة الركن فى أى مكان إلا بإزاحة الحجر أو الجذع أو الكاوتش، ولو وزك عقلك أو وسوس إليك الشيطان بأن تنزل حضرتك من سيارتك متبختراً فخوراً بنفسك نافشاً ريشك وقررت إزاحتها بنفسك، فبمجرد نزولك من المكتب أو البنك ستشاهد أجمل لوحة تشكيلية سريالية بغطاء الكوكاكولا، أو مطواة قرن الغزال على أبواب ورفارف سيارتك المحترمة!! بحسبة سريعة ومن خلال متابعة الفيلم الوثائقى الحى الذى شاهدته أمامى قبض هذا الشاب مبلغ 200 جنيه فى ساعة واحدة، أى أنه لهف أكثر من مرتب رئيس مجلس إدارة، وبدون خصم الضرائب!! بالطبع شاهدت تفويت بعض اللحاليح والذى منه لرجل الأمن الواقف أمام البنك، وصاحب كشك التصوير الذى يراقبه كالصقر، وفى النهاية أنا متأكد من مصير الألف جنيه، وهى متوسط غلة اليوم لسيادة الركين الأعظم، مصيرها شوية بانجو أو قرشين حشيش أو تذكرة هيروين، فهذا الشاب من مجرد لقطة راصدة له هو مدمن رسمى، لا يحتاج تشخيصه إلى طبيب مثلى لكن أى طفل سيكتشفه ويشخصه بمنتهى السهولة واليسر، هبط صديقى السلالم وظل يشكر الشاب الركين بحرارة على جميله الذى لن ينساه، وظللت أتساءل هل هذا الشاب مجرم أم ضحية؟ وهل هو الوحيد فى مصر الذى يكسب من الهوا ويدهن الهوا دوكو ويخرم التعريفة، أم أن الكل مدان يستحق كل منهم عنوان إحسان عبدالقدوس «يا عزيزى كلنا لصوص»؟!، أليس الركين هو مجرد زاوية من زوايا كريستال الفساد المصرى، مجرد لون طيف من قوس قزح العشوائية والطفيلية المصرية، أليس الركين مثل المخلصاتى فى المؤسسات الحكومية، والمسلكاتى فى الوزارات المصرية، والموصلاتى فى الشركات التجارية، والمشهلاتى فى البنوك العلمانية وأيضاً الإسلامية!! والمشمشماتى فى أروقة المجالس المحلية والجمعيات الزراعية الذى يشم من بعد عشرة أميال رائحة تحوّل هذه الأرض الزراعية إلى أرض مبانٍ!!!... إلخ، نحن لا نرى إلا قمة جبل الثلج لكن العمق يرسو على بحيرة مجارى فى قاع المحيط!!