x

اخبار لوتس عبدالكريم تكتب: لماذا تقدمت دول الشرق الأقصى بينما ساءت أحوالنا؟ اخبار الخميس 24-09-2015 21:12


ذكَّرتنى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى دول شرق آسيا بذكريات كثيرة لزيارات عديدة، قمت بها إلى تلك المناطق من العالم منذ زمن طويل.

فقد كان زوجى سفيرًا للكويت في طوكيو أوائل السبعينيات من القرن الماضى، ولقلة عدد السفراء في ذلك الوقت، كان تمثيلنا الدبلوماسى يشمل معظم دول المنطقة تقريبًا.

فإلى جانب اليابان كانت هونج كونج وتايلاند والهند وماليزيا وسنغافورة وإيران ضمن هذه البلدان، وكنا نتنقل طوال العام بين تقديم أوراق اعتماد كسفراء، وبين تفقُّد ودراسة لهذه الأماكن، وكان مركزنا الرئيسى في طوكيو، وكنت ما أراه يدهشنى ويرهقنى، إذ كانت تلك المناطق على درجة من التخلف والبدائية والجهل والفقر، لا يمكن تصورها، ومضت سنون ليست كثيرة إلى الحد الذي به انتهت إلى هذا التغيير المدهش، والحضارة العظيمة، والتقدم المادى والتكنولوجى المبهر، بينما نحن عايشنا التخلف، وساءت أوضاعنا ماديًّا وعلميًّا واجتماعيًّا في المدة نفسها، فقد كنا الأسبق في كل تلك الشؤون منذ سنوات ليست بالبعيدة.

وقد كان انبهارى عظيمًا بتجربة اليابان، التي اجتازت هزيمة ساحقة ودمارًا عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945، وأقامت مجدًا وحضارة وثقافة جمالية بفضل أفراد الشعب، وحبهم وإخلاصهم النادر لوطنهم، الذي يصل إلى حد إنكار الذات.

وذكرياتى في اليابان تحتاج إلى صفحات كثيرة، ترصد تقدم اليابانيين وحياتهم الهادئة بدون مشكلات ومنغصات، فمن جسور يعلو بعضها فوق بعض؛ لتسهيل وسرعة المرور، إلى محلات تجارية تصل إلى ستة أو سبعة طوابق، يحتاج المرء فيها إلى خريطة لسعتها وضخامتها، وكثرة بضائعها وتنوعها.

وتحضرنى تجربة الديمقراطية لدى الشعب اليابانى، فالفرد اليابانى لا مطالب له في حياته الخاصة، إذ إن مسكنه بسيط، وراتبه محدود، ففى دور الحكومة والوزارات تُوزَّع ظهرًا علب الأكل التي تحتوى على الأرز وبعض الأعشاب وقليل من السمك يأكلها الوزير والخفير على السواء، وهم يعشقون عملهم حد العبادة، ولذا تكافئهم الحكومة بالرعاية التامة، حتى في التمتُّع بالعطلة الأسبوعية، فتجد الطائرات كاملة العدد، وكذا الفنادق، على نفقة الدولة التي يعطيها الفرد كل مجهوده وتركيزه ووقته، وتلك هي الوطنية والديمقراطية التي وصلت إليها شعوب الشرق الأقصى آنذاك.

أما التعليم فيأتى في الدرجة الأولى، حيث لا يوجد شخص أمىّ أو غير قارئ، أو غير مثقف، حتى في مجال الخدمات البسيطة، فقد عملت لدىّ خادمتان كلتاهما تحمل درجة الماجستير.

ولما سنحت لى الفرصة للتدريس بجامعة طوكيو لفترة قصيرة، كنت أدهش لقدرة الطلاب والطالبات على الاستيعاب، واهتمامهم بالتفاصيل الصغيرة فيما يُحَصِّلون، وكثافة اطّلاعهم على الثقافة التي لا يلتزمون بها في دراساتهم كالموسيقى والفنون وعلوم التراث.

أما الرياضة فهى شىء جوهرى ومحورى وأساسى في حياة اليابانى، خصوصًا لعبة الجولف، حيث يسير فيها الشخص مسافات طويلة، تُشحذ فيها القريحة، وتتفوق الروح على مشاعر الضيق والاكتئاب، فيتقن اليابانى عمله بلا هموم، وفى هذه اللعبة تُؤلَّف الكتب وتُدرس بدقةٍ.

وكنت إذا تركت طوكيو- التي عشت فيها أربع سنوات- لأزور لندن وباريس، فكأنى أذهب إلى طنطا والزقازيق.

وأما زيارتى الأولى إلى ماليزيا، فلها قصة طريفة وغريبة لم تتكرر معى أو مع غيرى أبدًا، حيث سبقنى زوجى إلى تقديم أوراق اعتماده كسفير، وحين ذهابى إلى مطار القاهرة للحاق به، اكتشفت أننى نسيت جواز سفرى (وأنا دائمة النسيان)، والجواز في مكان ما بمنزلى في المعادى، وقد أُغلق باب المنزل، وأخذت مفاتيحه إحدى قريباتى، وسافرت إلى الإسكندرية، ولم يعد سوى وقت قليل على موعد إقلاع الطائرة، وينبغى لى أن أصل في اليوم ذاته إلى كوالالمبور قبل تقديم أوراق الاعتماد، وقادنى تفكيرى إلى مقابلة مدير المطار، وأخبرته بالقصة، ومن حسن الحظ أنه كان مهذبًا، فقال لى: ومن أين لى أن أعرف أنك فلانة؟ هل تعرفين شخصية مهمة في الدولة، لنتأكد منها؟ ورغم نسيانى الدائم لأرقام الهواتف، قفز إلى ذهنى رقم هاتف الوزير أمين شاكر وكان وزيرًا للسياحة في ذلك الوقت وصديقًا لنا، فاتصل به مدير المطار، فأكد له ضاحكا شخصيتى، وأن مغادرتى اليوم ضرورة، وركبت الطائرة غير مُصدِّقة، ووصلت إلى كوالالمبور بدون جواز سفر ولا تأشيرة دخول.

والمقصود من القصة هذه حال ماليزيا آنذاك، حيث هبطت الطائرة، ولم نستطع النزول، لوصول المياه إلى حافة الطائرة، مياه راكدة لعدم وجود بالوعات، ومياه أمطار سيول بلا مصارف، وابتل ثوبى حتى أعلى السيقان، وكذا كل الركاب، وكنا نخوض في المياه حتى وصلنا إلى أبواب المطار.

كان هذا حال ماليزيا من التخلُّف، والبؤس والفقر في الشوارع، واختلاف الجنسيات بين الهنود والبنجلاديش والبورميين، والمساكن الفقيرة والمهدمة، والناس في شرود من تدنِّى الحالة الاقتصادية والهم والجهل، ولم يكن أعضاء السلك الدبلوماسى سعداء، أو مستمتعين بأى لون من ألوان الحياة، فلم نكن نطيل المكوث أكثر من أيام.

لذا لم أكن أصدق كل ما أقرأ أو أسمع عن تغيُّر الحال، وتطور الاقتصاد والتعليم، وكل هذه الحضارة التي اكتسبها ذلك الشعب خلال تلك الأعوام، بل كنت أستمع في ذهول إلى كبار المستثمرين الذين يزمعون السفر للاستثمار، بل وصل الحد إلى رحلات شهر العسل في بقاع ساحلية جميلة من البلاد، وتم ذلك كله في فترة وجيزة من تاريخ أي بلد.

أما سنغافورة فكانت أسوأ حالا من ماليزيا، في صعوبة المعيشة والزحام والاختناق، وتكدُّس البضائع في الدكاكين، بل أكثر من ذلك كنا لا نسير إلا ومعنا «بودى جارد»، لخطورة الوجود في الزحام، وحوادث السرقة والقتل، وكان يقف أمام غرف الفندق حراس لخطورة ومفاجأة أحد المجرمين غرفة ما، هكذا بلا شرطة ولا حراسة.

وسنغافورة هذه الجزيرة الصغيرة التي حققت بعد ذلك نجاحا منقطع النظير في الإصلاح الاقتصادى، بسبب النظام التعليمى، حيث إن جامعاتها صارت الأفضل على مستوى العالم، ثم تشجيع المستثمرين، فليس هناك مجاملات، ولا مكان لأنصاف أصحاب القدرات في المراكز القيادية، لذا فرجائى أن تكون رحلة الرئيس المصرى درسًا في الاستفادة من كيفية إدارة الدولة، واختيار الكفاءات الأصلح، وليس بالاعتماد فقط على خبراء من تلك الدول، التي استطاعت في هذه الفترة الوجيزة الوصول إلى هذا المستوى.

وأذكر في رحلاتنا إلى الهند معاناتنا من التوجُّس في تناول الأكل والشرب، لكثرة تفشِّى الأوبئة، وكان الهنود ينصحوننا بغلى المياه والألبان، وصارت الهند بعد ذلك صاحبة واحدة من أكبر الحضارات الحديثة في العالم، وليس القديمة فقط.

وإلى بلد آخر أصبح أكثر تقدما وحضارة مما كان عليه في تلك الفترة، هو تايلاند، وكان اسمه الأول «سيام»، وكانت المياه تغرق القنوات والحقول، مع حرارة شديدة، وجو لزج ثقيل، ولكن الناس يبتسمون، وكانت تحمل فوق أرضها قوات أمريكية في ذلك الوقت، وبانكوك العاصمة بها سوق عائمة، حيث يحمل التجار بضائعهم في قوارب، ويمرون على الدور، وتنتشر الدعارة بسبب الفقر الشديد.

ورغم انتقال الحضارة في تايلاند من بدائية العصور الوسطى إلى قمة حضارة القرن العشرين، حيث تغلبت الشعوب بقوة الإرادة والصراع القوى ضد الجهل والفقر، وأصبحت في مقدمة شعوب العالم حضاريًّا، بفضل العلم، واختيار القيادات الصالحة.

أما هونج كونج التي كانت مستعمرة بريطانية، يعيش فيها الخارجون على القانون والمهربون، حيث البنوك التي تضم المليارات من جميع عملات الأرض، وكانت تنتشر بها الأمراض مثل الكوليرا والسل بسبب الفقر الشديد، وكان منظر «الريجشا» يؤلمنى جدًّا، وهى العربة التي يجرُّها الإنسان بدلا من الحمار أو الحصان.

كيف أصبحت الآن هونج كونج في الفترة الزمنية نفسها التي عبرناها؟ لقد تغيَّر بها نظام كل شىء، وأطلَّت الحضارة، وتبخر الفقر والعجز.

كيف حدث كل هذا في سنوات معدودات، لم نشعر نحن بمرورها، لا شك أن هناك مجهودات لم نرها نحن، ولم نخبرها طوال هذه المدة التي نهضت بتلك الشعوب من الحضيض الأسفل إلى أرقى الحضارات.

لقد اجتمعت لدىّ في هذه البلدان أجمل وأثرى الذكريات والخبرات.

ولا أجد هنا لزاما لسرد كل أو معظم أو حتى بعض ذكرياتى في هذه العوالم التي أصبحت في أقل من خمسة وأربعين عامًا من أكثر دول العالم تحضُّرًا، بل أسترجع ذكرياتى بها في حسرةٍ شديدةٍ على وطنى الذي تخلَّف خلال هذه المدة بدلا من مسايرة ذلك العالم، وكنا أفضل منه بكثير.

فقد انحدر مستوى التعليم منذ ثورة يوليو، فمن طه حسين إلى كمال الدين حسين، وكانت هذه هي البداية، وأعقبتها المجاملات في اختيار القيادات، وترنَّح الاقتصاد في ظل أخطاء جسيمة، وأطماع وسرقات وسوء تخطيط سببه أن اختيار الوزراء أو المسؤولين لا يتم على أساس الكفاءة، بل على أساس الولاء للحاكم، وسبَّب ذلك تقصيرًا وسوءًا في الإدارة، أدى إلى ازدياد الفروق في الطبقات، كأسوأ مما كان عليه الأمر من قبل، وتدنَّى الاقتصاد وساءت أحوال البلاد، وكما قال كارل ماركس: «إن الاقتصاد والحضارة يسيران جنبًا إلى جنب»، وهكذا نهضت دول الشرق الأقصى، وانهارت الدولة التي كانت في مصاف الدول العظمى.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية