هيمن الليل على الصحراء الموحشة، فافترشت الأرض هي وطفلها، لم يكن معها إلا جرعة ماء بعد أن نفد الطعام، ضمت طفلها إلى صدرها بقوة لتبعد شبح الخوف عنه وعنها، وهمست في أذنه: لم يتركنا أبوك هنا للموت.. تركنا لله، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
تشرق الشمس، وتعيد للصحراء لونها الأصفر على امتداد البصر، ومع ارتفاع الشمس في كبد السماء، تبلل شفتى طفلها بآخر قطرة ماء وتنظر إليه مشفقة وهو يبكى من الظمأ والجوع، تعطيه ثديها الجاف يعتصره دون فائدة، ويبكى من جديد.. تهدهده لعله ينام.. تضعه على الأرض وتنطلق تبحث عن الماء في كل اتجاه.. كان الصفا أقرب جبل إليها، صعدت عليه وراحت تنظر من فوقه في كل ناحية بحثا عن أمل، رأت ناحية جبل المروة سرابا ظنته ماء، هرولت من الصفا في اتجاه المروة، وفى ظنها أنها ستعثر أخيرا على الماء. ولكنها لم تجد شيئاً، وقفت منهكة تنظر وتتفحص من جديد، رأت الماء ناحية الصفا، كانت تريد أن تصدق عينيها وتكذب تجربتها، فعادت مهرولة إلى الصفا ولكنها لم تجد شيئاً.. وهكذا في كل مرة تسعى وراء الأمل، فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم يغب عن ناظريها. فلما كانت في المرة السابعة، وقد اشتد بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكها المسير، دون أن تعثر على الماء، نظرت إلى طفلها فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهى تقول: زم زم. ثم أخذت تشرب من الماء حتى ارتوت وانحنت على طفلها لتسقيه وهى تبتهل بحمد الله.
ترى كم من الوقت أخذت وهى تسعى؟!..
كم دمعة ذرفتها؟!.. وكم روعة ارتاعتها على وليدها؟!.. وكم صرخة سمعتها منه؟! وكم نظرة سرقتها إليه وهو يتلوى يكاد يموت من البكاء عطشا وجوعا وألما؟! ولكن إيمانها بالله لم يتزحزح لحظة وتوكلها عليه لم تشبه شائبة.
ماذا كانت حياة هاجر قبل أن تلتقى بالزوجين إبراهيم وسارة؟ تختلف الروايات التاريخية حولها، هناك روايات يهودية تقول إنها كانت جارية في قصر فرعون، ولكن كتباً يهودية أخرى تذكر أنها أميرة، أما في التوراة فجاء في سفر التكوين (45:1) أنها كانت ابنة لفرعون مصر وتم سبيها بعد قتل والدها من جانب مغتصبى الحكم. اسمها بالهيروغليفية معناه زهرة اللوتس المصرية، وهناك روايات متداولة في جنوب مصر وشمال السودان أن السيدة هاجر نوبية الأصل، وأن اسم هاجر يقابله نفس النطق في النوبية لكلمة هاقجر التي تعنى الجالس أو المتروك، في إشارة لتركها وحيدة في مكة، وكلمة زم زم التي نطقتها عندما انفجر الماء، مقابلها في اللغة النوبية سـم، والتى تعنى بالعربية جـف، فقد كررت سم سم، وتحور النطق لتصبح زم زم.
ولعل أفضل معنى لاسم هاجر هو العربى الذي يعنى الهجرة، فحياة هاجر هجرة متصلة، هاجرت من وطنها مصر حيث عاشت طفولتها وصباها مع سيدتها سارة، ثم ذهبت إلى فلسطين وعاشت زمنا في بيت خليل الله إبراهيم حتى تزوجته بناء على طلب سارة التي فشلت أن تهب إبراهيم ولدا، وحين حملت هاجر وأنجبت إسماعيل كانت الهجرة الثانية في انتظارها، ولا أقتنع كثيرا بما يروى عن غيرة السيدة سارة وانصياع سيدنا إبراهيم لأوامرها بإبعاد هاجر وابنه البكرى إسماعيل إلى أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولكنه بلا شك أمر إلهى لا يمكن لإبراهيم المجادلة فيه.
هاجر تهاجر مرتين، تترك الوطن تلو الآخر حتى ينتهى بها الحال، وبأمر مباشر من الله، في مكة التي تجد فيها الوطن الذي لم تعرفه من قبل، والاحترام والمودة التي لم تلاقهما من قبل، فهاجر وابنها هما اللذان عمرا هذه البقعة المباركة وجعلاها ملتقى القبائل، هما الجذر والأصل، فإن كان إسماعيل هو أبوالعرب فهاجر جدتهم.
هاجر امتحنها الله مرتين في ابنها الوحيد، الأولى حين كاد أن يموت جوعا وعطشا حيث تركهما أبوه إبراهيم، والثانية حين اصطحب إبراهيم ولده إسماعيل ليذبحه طاعة لأمر الله، وفى كل مرة لم تكن تسأل إبراهيم سوى سؤال واحد: أهو أمر الله؟ كانت إجابته بنعم كافية لتقبل الأمر برضا المحتسب، سكينة الإيمان تغمر قلبها، والتوكل على ربها ينقذها من هول الجزع والخوف الذي تعيشه أي امرأة في موقفها.
كرم الله هاجر مرتين، مرة بتمكينها من أن تكون صاحبة مكانة في وطنها الجديد، والثانية بأن جعل سعيها بين الصفا والمروة من شعائر الحج والعمرة، لا يكتمل أي منهما بدونه.
والمسلمون في كل بقاع الأرض حين يحتفلون بعيد الأضحى المبارك يتذكرون الثلاثى المتوكل على الله الراضين بحكمه: إبراهيم وإسماعيل وهاجر رضى الله عنهم وأرضاهم.
وكل عام والمسلمون جميعا في كل بقاع الأرض في خير وسلام.