x

مي عزام هانم العظيمة... صانعة أسطورة هيكل مي عزام الأربعاء 23-09-2015 11:03


تمسح «هانم» ببطن يدها سطح المرآة، وتفتش عن أحلامها الرومانسية في مستقبل يتجاوز طموحات هدى شعراوى وحفلات سيدات العمل الخيري الباحثات عن دور في مجتمع لايزال يفرك عينيه بعد نعاس طويل.

ابنة حى الحسين الشعبى تحارب معركتها مع «الأميرة ذات الهمة» ورومانسيات «ست الحسن»، تريد أن تكون مثل بطلات الروايات التي تقرأها، لم لا؟، فهى تجيد القراءة رغم أنها لم تذهب يوما إلى أي مدرسة، لقد تعلمت بالحب والتطلع، تعلمت بمحاكاة أخيها سلام، كانت ذكية وراغبة، تجلس بجوار سلام بالساعات لتحفظ كيف يشكل الحروف بأصابعه وينطقها بلسانه، وبعد أن أجادت القراءة قرأت كل مالديه من دواوين الشعر والروايات.

رسمت صورة فارس الأحلام في الخيال، أفندى طويل، وسيم، أنيق، يجيد الإنجليزية تتعلق بساعده ويصحبها إلى مسرح جورج أبيض، مثل هوانم الطبقة الراقية، أليست «هانم» حتى ولو بالإسم؟.

ذات صباح، دخل عليها والدها الحاج عبده ليبلغها بقدوم العريس، إحمر وجهها خجلا، فابتسم الأب وقال: تاجر غلال على خلق يتعامل معي منذ سنوات واعرفه جيدا، يعيش في قرية باسوس بمحافظة القليوبية، لم تكن مواصفات العريس تروق لها، كانت بعيدة تماما عن أحلامها، لم يكن لديها رد فصمتت، اعتبر الأب أن السكوت علامة الرضا، وبارك لها مقدما.

هبت هانم واقفة وهي تقول لوالدها بخجل: بس أنا مش عايزة ابعد عنكم يابا، أنا مش هقدر أعيش بعيد عنكم في بلد تانية

قال الاب: اللي فيه الخير يقدمه ربنا، وعزم أمره على مناقشة حسنين في هذا الأمر، واتفق معه أن يعيش مع هانم في بيت العائلة قرب الجامع الازهر، وابلغ هانم بذلك فارتاحت قليلا، وتم زواج من تاجر الحبوب الريفى الذي لايقرأ ولايكتب.

ومع العشرة اكتشفت هانم مدى طيبة حسنين، واحترامه لها، حتى أنه كان يستمتع بحديثها، ويجلس معها بالساعات وهي تقرأ له الكتب والروايات والجرائد، وتستمع له وهو يحكى لها عن تذبذب أسعار الغلال وكيف أرتفع سعر أردب الفول فربح من ذلك جنيه كامل، لم تكن هانم صاحبة عصمة، لكنها كانت صاحبة طموح وهدف في الحياة، وعرفت كيف تؤثر في حياة زوجها بحكمتها وأدبها وثقافتها.

وفى ليلة خريفية معتدلة من شهر سبتمبر، استيقظ أهل البيت على صراخ هانم، فقد جاءها المخاض فجرا، ساعات قليلة وانطلقت زغرودة مصحوبة بصيحات الداية والنسوة في بيت الحاج عبده «ولد...ولد»

هتسموه أيه؟

محمد بإذن الله، على اسم سيد الخلق، جد سيدنا الحسين .

كان محمد أول فرحة لأمه، كبر الرضيع، وبدأ يجلس في مندرة الجد الحاج عبده سلام ليحفظ القرآن على يد الشيخ قاسم مع أطفال العائلة، وكلما كان يحفظ سورة يمنحه جده قرش صاغ بحاله، أو قطعة حلوى، فيعود لوالدته مبتهجا ويضع في كفها القرش، كانت هانم تحتضن ابنها، وتمسح على شعره، وتطبع قبلة على خده، وهي تقول له بحب: شاطر يامحمد، عارف يامحمد أنا نفسى تبقى أفندى تلبس بدلة شياكة وتشتغل في الحكومة، يارب يا ابني تفرح قلبى، وتعزنى في كبرى.

كان محمد يتمنى أن يكبرسريعا ليحقق أمنية أمه ويسعدها.
حياته في بيت جده لم تكن ميسورة ولاناعمة ولكنها مستقرة، كان جده يصطحبه معه لمجالس القرآن التي تضم علماء وقراء من أمثال الشيخ على محمود والشيخ على حزين والشيخ محمد رفعت والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى.كان محمد يضيف على تلك الجلسات الكثير من التفاصيل من وحى خياله، وحين يقصها على أقرانه تصبح أسطورة، فلقد ورث عن أمه أسلوبها الساحر في الحكى.

والده كان مشغولا بالتجارة وأكل العيش، أولاده الكبار من زوجته الأولى «صابحة» لم يدخلوا مدارس فكانوا يعاونوه في تجارته، ولكن هانم كانت حاسمة معه: «ولادى لازم يتعلموا»، وافق الأب على تعليم محمد في الأزهر، كان ذلك اقصى مايفكر فيه، لكن هانم كانت تفكر في التعليم الحديث والمدارس الأميرية، وما إن سافر والده حتى سارعت بالاتصال بشقيقها ليساعدها في تقديم أوراق محمد لمدرسة خليل أغا.
لم يكن لدي هانم ماتدخره، رغم ذلك استطاعت أن توفر مبلغا من مصروف البيت، كانت تريد لأبنها أن لايكون أقل من زملاؤه، أخذته وذهبت به لدكان في وسط البلد اسمه «بلاتشى» لشراء بدلة المدرسة، وجلس التلميذ الصغير متأنقا في بين زملائه في سنة أولى بمدرسة خليل أغا الابتدائية.

عرف محمد أهمية الأونيفورم، وكيف أنه يجب دائما أن يحافظ على مظهره، فهو جزء من الصورة التي حرصت الأم عليها ،ولقد ظل حريصا على أناقته وارتداء البدلة بعد ذلك وطوال حياته.

فضل محمد مدرسة التجارة المتوسطة حتى ينهى الدراسة سريعا ويساعد أسرته، انتقل من عمل لآخر، حتى وصل إلى جريدة «الإيجبشن جازيت»، ومنها إلى مجلة «آخر ساعة» التي كانت بداية رحلة النجاح والشهرة.

مرت السنوات، وكبرت امنيات «هانم»، فقد نبتت أجنحة الاحلام وحملت محمد إلى أعالي السماء بين نجوم الصحافة والسياسة في العالم، لف بقاع الأرض، وقابل الملوك والرؤساء والسفراء، واصبح أشهر من نار على علم.. محمد الصغير صار كبيرا يحتفل اليوم بعيد ميلاده الاثنين والتسعين.. إنه الأستاذ محمد حسنين هيكل.. الصحفي الأسطورة..ألف رحمه وتحية للأم العظيمة صانعة الأسطورة .

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية