بعدما زالت السّكْرة، يجب أن نتوقع كل شىء، توقعنا مبكرا إقالة الحكومة، إلا أننا قلنا إن الإقالة أو الاستقالة لن تكون كافية لتدارك الأوضاع، الأمر أكبر من ذلك بكثير، قلنا مراراً إن النحنحة والسهوكة والحنّية لن يسدوا رمق أى جائع، ولن يستمر مفعولهم طويلا، حالة الفوقان بدأت، لا علاقة لها بطلبة الجامعات، ولا بالعام الدراسى الذى لم يبدأ بعد، نحن نتحدث عن أمناء الشرطة، والمدرسين، وموظفى الضرائب، وكل الموظفين المضارين من قانون الخدمة المدنية، وتلاميذ الثانوية العامة، وحملة الماجستير والدكتوراة، والفلاحين مزارعى القطن والأرز، والمضارين من انقطاع مياه الرى، وتعطل محطات مياه الشرب وتلوثها بمعظم المحافظات.
لم نتحدث حتى الآن عن العمال الذين يرصدون ما يُنشر حول زيادة مرتبات فئة بعينها، ولا بدلات مُستفزة لفئة أخرى، ولا حوافز فئة ثالثة، لم نتحدث عن أكثر من ١٣٪ بطالة بين مجموع المواطنين، لم نتحدث عن ارتفاع غير طبيعى للأسعار، ولا انهيار غير مسبوق للجنيه، ولا تدهور غريب لسوق الأوراق المالية، لم نتحدث عن ارتفاع نِسَب الانتحار، ولا زيادة حالات الطلاق، ولا التشرد، ولا العشوائيات.
نحن لم نتحدث أيضا عن عوْدة غبيّة للشرطة فى التعامل مع الناس، ولا معاملة أكثر غباءً للمساجين والمعتقلين، ولا تدهور واضح فى مجال حقوق الإنسان بصفة عامة، لم نتحدث عن نظام تعليمى أكثر فشلاً من ذى قبل، ولا نظام صحى أكثر تردياً، لم نتحدث عن حالة مرورية أكثر تأزماً، ليس فى العاصمة وحدها، إنما فى جميع المدن بلا استثناء، لم نتحدث عن حالة الطرق داخل المدن وخارجها، لم نتحدث عن البيئة وارتفاع مستويات التلوث، لم نتحدث عن الفساد الذى استشرى فى كل أوصال المجتمع، لم نتحدث عن منظومة إعلامية أقرب إلى النظام الشيوعى، لم نتحدث عن تدهور حالة المرافق والخدمات، الأهم من كل ذلك هو عدم وجود رؤية واضحة للحل.
إذن، لم يعد جائزاً، الآن، ولا فى المستقبل، اتهام أى مظاهرة بالعمالة والخيانة، وتعليقها على شماعة جماعة الإخوان، هم الذين يحركونها، وهم الذين يمولونها، وهم الذين يكنسون من أجلها عتبة السيدة، رغم أن عشرات الآلاف منهم داخل السجون، وإلا فإنهم خارقون، باتِعون، نافذون، ولو كانوا كذلك ما كانوا قد فشلوا هذا الفشل الذريع، ولما كان هذا هو مصيرهم.
من الضرورى إذن البحث عن الشماعة الحقيقية، خاصة أنه من الخطأ اعتبار هذه الجماعة فقط، الجماعة المناوئة الوحيدة فى شرق البلاد وعرضها الآن، فلو أمعنا النظر سوف نجد أنهم أصبحوا يمثلون أقلية فى أوساط الساخطين على الأوضاع، الذين باتوا من كل التوجهات السياسية، باستثناء المستفيدين من هذه الحالة، والذين يتساقطون تباعا، إما لفساد سابق، وإما لفساد لاحق.
بالتأكيد هناك من لايزالون يعيشون حال السّكرة، ماذا لو انتابتهم حالة فوقان أيضا، بالتأكيد هى قضية وقت، لن يستطيع أحد الصمود أمام ضنك الحياة إلا إذا كان من فئة المتساقطين، وهم الذين يهرولون هرباً ساعة الحسم، لذا فإن الأمر جد خطير، يستدعى التعامل معه بجدية، بالتأكيد ليس المقصود بالجدية هنا الوسائل الأمنية، مطلوب التعامل مع هذه الأوضاع بعقلية الباحث عن حل، الحلول فى كل منها يجب أن تنطلق من أسلوب علمى، كما فى كل الدول المتحضرة التى خاضت هذه التجارب من قبل، التى مرّت بأوضاع اقتصادية واجتماعية أسوأ بكثير من أوضاعنا هذه، إلا أنها فى النهاية عبرت إلى بر الأمان، استطاعت فى معظمها تحقيق نهضة غير مسبوقة، وأرقام تنموية عالية، تضاعفت معها مستويات الدخل، وتراجع معها إلى الصفر مستويات الفقر والتضخم والبطالة، ولنا الأسوة فى دول النمور الآسيوية، كما فى تركيا، كما فى بعض دول أوروبا الشرقية.
فى بعض الأحيان تصور البعض أن قانون التظاهر، أو بمعنى أصح قانون منع التظاهر، قد قضى على طموح الناس وآمالهم فى التعبير عن الرأى، تصور البعض أن هذا القانون عصا الفرعون التى لا يمكن مقارعتها، تصور البعض أن زمن الخروج إلى الشارع قد ولّى إلى غير رجعة، هو تصور خاطىء ذلك الذى يمكن أن يرى الجائع يمكن أن يستكين، أو أن المظلوم يمكن أن يقبل الظلم إلى ما لا نهاية مادامت حركة بناء مزيد من السجون والمعتقلات تسير بوتيرة متسارعة.
يجب أن نعترف أن هذا القانون قد حدّ من المظاهرات والاحتجاجات إلى حد كبير، وإلا لكان عاليها واطيها الآن، وربما قبل الآن، إلا أن الرهان على ذلك طوال الوقت هو خطأ جسيم ترتكبه السلطة الحاكمة، وإلا لما كانت حالة النزول إلى الشارع فى تزايد الآن، لن يستطيع بطش الأمن السيطرة على حركة الجماهير، كل الجماهير، كما لن تستطيع المزيد من السجون استيعاب كل الشعب.
كان يجب أن يؤخذ كل ذلك فى الاعتبار حين تكليف شخص ما بتشكيل حكومة جديدة، كان يجب أن يكون على مستوى المرحلة، التكليف الجديد لم يحقق الارتياح العام الذى كنا نبحث عنه، على العكس، كان رد الفعل سلبيا، خرجت إلى السطح تصريحات وصور وممارسات سابقة للرجل جميعها تدينه، بدا أن صانع القرار مرتبك، لا قرار الإقالة فى هذا التوقيت كان مدروسا، ولا حتى قرار التكليف، أوضاع فى مجملها غير مبشرة، هى فقط ساهمت فى تأجيل الاحتجاجات، ربما كان هذا هو الهدف أيضا، هو قصور نظر، يكفى أن القرار أزال السكرة، كما هو واضح عن بعض أصحاب الأقلام، وهو ما يؤكد أن وتيرة الفوقان متسارعة، على كل الأصعدة.
هى رسالة إلى أولى الأمر، ماذا أنتم فاعلون، هى رسالة إلى رئيس الدولة تحديدا، حركة الشارع أسرع من أى تصور، هى الإيجابية الوحيدة التى خرج بها الشعب من مجمل تفاعلات خمس سنوات مضت، لم يعد ممكنا ترويضه بالكلام المعسول، أو بإجراءات منقوصة، بكبش فداء من هنا أو هناك، الفساد واضح فى جميع الأروقة، والفاسدون يتعاظمون يوما بعد يوم، فلتبدأ حركة التطهير بإرادة معلنة، وصدق لا يقبل التشكيك، وإلا فسوف نقبل باحتجاجات الشوارع، شئنا أم أبينا، ومادامت السكرة قد زالت، فالنهاية محسومة سلفاً.
ندعو الله أن يهيىء لمصر أهل رُشد، يتعاملون مع الأوضاع بقدرها، ويحفظها من كل مكروه.