كلام خطير ذلك الذى كان قد أدلى به فى أحد البرامج التليفزيونية السيد عبدالخالق رمزى، رئيس لجنة إدارة امتحانات الثانوية العامة السابق، والذى تحدث فيه عما يمكن تسميته مافيا كنترول الثانوية، مستخدماً تعبير (كن فاسداً ترتقِ)، فى إشارة إلى ذلك الفساد الكامن والمتضخم والمستشرى هناك، والذى يتربح من خلاله أصحاب الذمم الخربة سنويا ملايين الجنيهات لحساب طلاب السلطة والمال الفاشلين، على حساب المتفوقين من الطلاب الفقراء، والأهم من ذلك أنه قد أبلغ المسؤولين تفصيلياً بما يجرى، إلا أن النتيجة كانت تنحيته واستمرار الآخرين.
ما ذكره المسؤول السابق يجعل المجتمع يوقن دائماً أن حُسن النية لم يعد أمرا مطروحا فى حياتنا، كما هى الأخطاء غير المقصودة سواء بسواء، ولذلك فإن أحدا لم ينظر إلى صفر الطالبة مريم مثلا على أنه خطأ غير مقصود أبدا، على الرغم من التقارير التى لم تكن فى صالحها، نحن مجتمع يعرف بعضنا بعضاً بعمق شديد، ندرك فوراً مع كل أزمة أن هناك لصوصا، أن هناك مستفيدين، أن هناك مرتشين، مزورين، عديمى الضمير، لذلك فلا نجد بيننا من يلتمس الأعذار أو من يُحسن الظن بعد كل هذه الوقائع اليومية، بدا واضحا أننا مُحقون فى كل هذه التصورات.
قبل عدة سنوات، كانت هناك قضية على قدر كبير من الأهمية، وهى اكتشاف تسريب امتحانات الثانوية عدة سنوات متتالية فى بعض المحافظات، أذكر منها النموذج الصارخ تحديداً محافظة المنيا، وهاجت الدنيا وماجت، وتحقيقات ونيابات، وفى النهاية لا شىء، الكارثة هى هى، بل على العكس، تطور الأمر، لأساليب جديدة فى تسريب الأسئلة والغش وتبديل أوراق الإجابة والرشوة، والإصرار على إبقاء من هم فى الكنترول لعدة سنوات متتالية، وعدم استبعاد من لهم أقارب يؤدون الامتحانات، وكل ذلك بسبب عدم الحزم فى التعامل مع المخالفات المتكررة سنويا.
من حقنا أن نوقن أيضا أن كل هذه أمور مقصودة ضمن مخطط إفساد التعليم، ومافيا وضع المناهج، ومافيا طباعة الكتب، وضياع الطلبة، وإفشال الخريجين، ومن ثم تدمير الدولة المصرية، من حقنا أن نوقن أن صمت المسؤولين ليس تقصيرا، أو جمودا فكريا، أو حتى غباء، نحن نتحدث عن ظواهر متكررة بصفة سنوية، نتحدث عن فساد واضح بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث الرشوة، والتدليس، والتزوير، والغش، والتخريب، والسرقة، وكل ذلك يصب فى النهاية فى اتخام المجتمع بأجيال من أنصاف المتعلمين، ولا نقول أنصاف المثقفين.
الحقيقة المؤكدة هى أن ما يحدث فى مجال التعليم بمصر لو كان يجرى ضمن مخطط محلى لما نجح، أو لما سار بهذا الإتقان، بدءاً من مراحل التعليم الأولى حتى انتهاء المرحلة الجامعية، والشاهد على ذلك أننا محلياً لم ننجح فى أى مجال بذلك الإتقان الذى عهدناه فى ذلك الفشل التعليمى، بما يدل على أن القائمين على أمرنا، ومنه أمر التعليم، ليسوا بهذه الكفاءة التى يعدون بها مخططاً بهذا القدر من الدقة، جدير بإسقاط أى مجتمع على المدى البعيد، أعتقد أنه من المهم البحث عن هؤلاء الذين يقومون بتنفيذ هذا المخطط على مدى عدة عقود، من المهم البحث عن الجهة التى ترعاهم، من المهم محاسبة جميع وزراء التعليم السابقين الذين لم يتنبهوا لهذا المخطط لمواجهته، إلا إذا كانوا جميعاً جزءاً منه.
أعتقد أن مستوى الخريجين لدينا الآن، وبصفة خاصة مستوى المدرسين، ومن قبل ذلك ما يجرى فى كنترول الثانوية العامة، وقبل هذا وذاك ما تعانيه الأسرة المصرية طوال سنوات تعليم أبنائها، هى أمور كفيلة بإيلاء هذه العملية أهمية قصوى بين كل أزماتنا التى أصبحت فى مجملها مزمنة، وأعتقد أن استمرار فشل هذه المنظومة إنما هو ناتج بالدرجة الأولى عن تحميلها لهذا الوزير أو ذاك، أو بمعنى أصح لمنصب الوزير، وهو الأمر الذى لا يمكن معه نجاح أى جدول زمنى من أى نوع، مع هواية تغيير الوزراء أو الحكومات لدينا. ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى تراجع موقف مصر فى محفزات الكفاءة، حيث تراجعت جودة التعليم لتسجل ١٤١ من بين ١٤٤ دولة، بينما احتلت المرتبة ١١١ فى جودة التعليم العالى والتدريب، وفى تطور الأعمال والابتكار جاءت فى المرتبة ١٣٥، وفى جودة البحث العلمى وإنفاق الشركات على البحث العلمى جاءت فى المرتبة ١٣٣، وكان أحد التصنيفات الدولية قد صدر فى الآونة الأخيرة، لم ترِد فيه أى من الجامعات المصرية ضمن أفضل عشر جامعات أفريقية- أُكرر أفريقية.
أمر التعليم، أيها السادة، يجب أن يوكل إلى مجموعات من الخبراء والمتخصصين، لا علاقة لهم باستمرار هذا الوزير أو رحيله، هذه المجموعات يجب أن تعمل من خلال جدول زمنى، ترتقى فى نهايته العملية التعليمية إلى المستوى الذى يليق بسمعة مصر، ويتناسب مع تاريخها، وقد يستدعى الأمر الاستعانة بخبراء من خارج مصر للإشراف على كنترول الثانوية العامة إذا كان الضمير المصرى قد توارى إلى هذا الحد، أما وقد نجح فى امتحان الثانوية من لا يستحق، ورسب من لا يستحق، فيصبح من الطبيعى ترتيب جامعاتنا فى القاع بين الجامعات الأخرى، وذلك لأن التصنيف بالتأكيد يأخذ فى الاعتبار مستوى الطلبة.
الثانوية العامة وكنترول الثانوية العامة، أيها السادة، مجرد نموذج أو حلقة فى سلسلة من فساد منظومة التعليم، ولننتظر تصريحات الحكومة الجديدة فى هذا الصدد، لنتأكد أن الأسطوانة المشروخة تتوارثها الحكومات المتعاقبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
%MCEPASTEBIN%