x

عمرو الزنط قصص عن «الصحوة».. بين الإيدز والأيبولا عمرو الزنط الجمعة 11-09-2015 21:24


عندما كنت فى الثامنة من العمر عاد والدى الديبلوماسى من عمله فى سفارتنا بموسكو إلى مقر وزارة الخارجية بالقاهرة. ولأنى لم أكن أعرف القراءة بالعربية، أحضر لى والدى مدرس لغة عربية.. كان اسمه إبراهيم، وما زلت أتذكر وجهه السمح. الأستاذ إبراهيم كان متدينا، من النوع الذى يأخذ تدينه جديا، تماما كما كان والدى علمانيا من النوع الذى يأخذ توجهاته العلمانية جديا.. فى هذا الإطار دار بين الأستاذ إبراهيم ووالدى صراع ضارٍ على عقلى ووجدانى.

كان ذلك فى نهاية السبعينيات.. وخلال الصراع غير المباشر بينهم اندلعت الثورة الإيرانية، التى أيدها والدى فى البداية، لأنه كان يكره الشاه ومعجب بالشباب الثورى اليسارى. لكن سرعان ما انقلبت الأمور واختطف خومينى الثورة، ومن لم «يفلت بجلده» من الثوار تم تصفيته أو الزج به فى السجون. فى هذه المرحلة بدأ الأستاذ إبراهيم الاحتفاء بما يحدث فى إيران، ولمعت عيناه عند الحديث عن بصيص الأمل المتدفق من فارس، مجسدا لفجر جديد فى ملحمة الأمة الإسلامية.. قال إنه يتوقع نفس «الفجر» فى مصر قريبا، حين سيطاح بالنظام الفاسد الذى يعمل فيه «أبوك العلمانى». عندما نقلت هذه الفكرة الثورية الراديكالية لـ«أبويا العلمانى»، موجها له نصيحة «إبراهيم بيقلك خد بالك»، «أقال» والدى الأستاذ واستبدله بسيدة «نصرانية» كانت تعمل فى مدرسة الـ«جيزويت».

كنت قد ارتبطت فكريا ووجدانيا بالأستاذ إبراهيم، لذلك غضبت كثيرا لاختفائه واتهمت والدى بأبشع الاتهامات المعهودة التى كنت قد تلعمتها وتعودت عليها، ولم أبدأ فى تغيير موقفى إلا بعد فترة من انتقالنا للعاصمة الأمريكية واشنطن، حين تابعت حلقات العالم كارل ساجان (كوزموس) على التلفاز واكتشفت أن وجهة نظر والدى للعالم كانت أقرب لعالم المعرفة المبنية على أدلة ومنطق رصين عن نهج الأستاذ إبراهيم، الذى لم يبرره إلا قراءات ضيقة وساذجة للنص الدينى.. ومن ذلك الوقت قررت العمل فى المجال العلمى، وبعد ذلك بعقود تيقنت أن هناك مكانا مهما للروحانية فى حياة الإنسان، لكن ليس فى التسلط والنفعية السياسية أو فى تفسيرات حمقاء للحقائق العلمية، إنما فى مجال الأخلاقيات.

كان ذلك قبل تفشى الصراع الطائفى البدائى بين «الصحوة» الشيعية وزميلتها السلفية، حينها أيدت جماعات الإسلام السياسى فى مصر الثورة الإيرانية، فتذكرت مثلا جماعة الإخوان علاقة سيد قطب التاريخية بمؤسس جماعة «فدائى الإسلام»؛ الشيعى الإيرانى «نواب صفافى»، الذى كانت جماعته تقود الجناح الأكثر تطرفا فى الثورة الإيرانية، فكانت تضغط على الخومينى ليقمع العلمانيين ويطبيق ما اعتقدوا أنه شرع الله فوريا. وبعد نجاح «ثورة الصحوة» تم تدريس تعاليم و«معالم» قطب فى إيران، وفى المقابل وجد دعاة الإسلام السياسى عندنا فى نجاح الصحوة المسلحة مثالا ملهِما يُحتفى به.

هكذا انتشرت فكرة «مملكة الله على الأرض» (حسب تعبير قطب) من حقول الفكر المجرد إلى حيز آمال التنفيذ الفعلى. انتشرت العدوى كالفيروس، فى عالم عربى كان لديه استعداد كبير لتقبلها.. انتشر الفيروس الإيرانى حتى قابله فيروس آخر أكثر بدائية، ممثلا فى حركات الأصولية السنية البحتة، التى وصلت ذروة عنفها الفكرى والفعلى المجنون فى «افتكاسات» مثل القاعدة وأخيرا «الدولة الإسلامية». وإذا كان الفيروس الإيرانى مثل الإيدز وفيروس سى، من حيث إنه يأخذ فترة طويلة قبل أن يفتك بالجسد الذى أصابه- فترة طويلة تتيح له الفرصة لعدوى أجساد سليمة، ومن ثم الانتشار الفعال- فإن «صحوة داعش» من نوع فيروسى يشبه الأيبولا، الذى يفتك سريعا بالمجتمع الذى يصيبه ويهلك جسده ونسيجه.. لذلك ليس من المرجح أن ينتشر كثيرا خارج الحيز الحالى فى العراق والشام، لأنه سيفتك بالمجتمعات التى أصابها قبل أن يتمكن من الانتشار، تماما مثل حال الأيبولا فى أجساد البشر.

أما على المدى القصير والمتوسط، فسنتابع المزيد من مأساة إنسانية متجسدة فى صورة جموع ملايين النازحين واللاجئين، التى تتدفق على شواطئ «ديار الحرب»، طالبة النجدة من آثار الصحوة. فى حين أن الدول المسؤولة عن تمويل ودعم الصحوة- بشقيها الشيعى والسلفى، فكريا وماديا على جانبى الصراع السفلى الطائفى البدائى فى العراق والشام- لا تأخذ أى لاجئين.. لا السعودية ولا إيران أنقذت أحدا عمدا على حد علمى.

كل ذلك ذكرنى بما كنت تيقنت به بعد فترة «صحوتى» فى واشنطن، فما يسمى بالصحوة الدينية فى عالمنا العربى المنكوب ليس فيه أى شق أخلاقى، إنما يتضمن أسفل استخدامات ممكنة للدين.. أما من يبحث عن أساس أخلاقى رصين، بانٍ للحضارة، فلم يعد أمامه إلا أن يتطلع بائسا إلى ديار ما وراء البحار، التى يجازف الفارون من جحيم الصحوة بأرواحهم حتى يلمسوها.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية