رن جرس التليفون طويلا حتى انقطعت أنفاسه، منذ أسبوع وهو يتلقى نفس الرنات في نفس التوقيت، يعرف من المتحدث ،الرقم يظهر على شاشة التليفون،حسام ناشر أعماله، بالتأكيد يريد ان يعاتبه وربما يطالبه بالدفعة المقدمة التي قبضها منذ 6 أشهر، الأمر يسير كالمعتاد 40%مقدم و60% قبل حفل التوقيع بأسبوع، منذ 5سنوات والأمر يتم على هذا النحو، كل عام له رواية تتحول عادة إلى فيلم سينمائى أو مسلسل تليفزيونى، من قبل كان صحفى مغمور يعد صفحة ساخرة في جريدة أسبوعية مغمورة، كان عالمه ساخر، ساحر، عبثى ،افتراضى .
عندما بدأ مشوار الرواية قرر ان يغير أسلوب الكتابة كل عام، حتى ُأطلق عليه كاتب التجريب والتغريب، له التراس لايقلون تحيزا له ودفاعا عنه عن التراس الأهلى والزمالك.
يعرف في قراره نفسه أنه غير موهوب، في حوار في أحد المجلات الأدبية طلب من المحرر ان لايعامله على انه أديب وكاتب ولكن على انه «نقاش»، طلب منه المحررتفسير فقال: أنا لست مهندسا معماريا ولامدنيا ولاحتى بناء، أنا نقاش شاطر، اطلى الحوائط بألوان جديدة وغريبة تجذب الأنظار، بعد حين ستبهت هذه الألوان ولن يبقى منها شيئا ،وابتسم واضاف: انا كاتب مزيف .
نشر التراس الأستاذ هذا المقطع عبر الفيس بوك وتويتر بأعتباره دليل جديد على تواضع وعبقرية الكاتب النابغ، ترويج حقق لرواياته المزيد من المبيعات.
الأستاذ في مأزق، يجلس منذ أسابيع على مقعده بالساعات ليفكر في تقليعة جديدة، المنضدة المجاورة له عليها مِنْفَضَة كبيرة، ممتلئة بأعقاب السجائر وتجاورها أكواب مختلفة المقاسات يلتصق بقاعها «تفل» القهوة، عقله نضب، خياله تحول لشاشة بيضاء .
يحب الكتابة بالقلم الرصاص على ورق الدشت ،رغم معرفته الواسعة بالكومبيوتر، يتفائل بهذا الطقس ،يتعامل مع الكتابة كخلطة الوان بالكمبيوتر، كل شىء بحساب، يضع خريطة للكتابة، يفكر في عدد صفحات الرواية وفصولها وشخوصها وتكنيك الكتابة ثم يبدأ العمل وكأنه يملأ فقط الفراغات.
هذه المرة ليس لديه خريطة، ولاحتى فكرة واحدة، قلة الموهبة كان يعوضها بالحرفية، لم يكن مصمم ملابس ولكن خياط ماهر.
كان عليه أن يبدأ بأى طريقة، لايمكن الاستمرا طويلا على هذا الحال، طلب من سكرتيره تحضير ورق الدشت سأله عن العدد كما يحدث كل مرة، قال له: أقترح يامجدى ؟، ابتسم مجدى وقال: كفاية 99 صفحة هذه المرة حضرتك مرهق ..و الرأى الأخير لك .
وفكر الأستاذ، لما لا؟؟فلييجعلها بعدد حبات السبحة، ولتكن ثلاث ابواب كل باب 33 صفحة، والباب يقسم لثلاث فصول، كل فصل 11 صفحة وليكن عنوان الرواية «سبحة العابد».
وبدأ مخطط الرواية
الباب الأول: الغيب
الفصل الأول
بالأمس حضرت..كنت نائم، رأيتها في الحلم، أثق بأحلامى أكثر مما أثق بساعة الحائط
كثيرا ما تخدعنى علب الزمن، تشير عقاربها أننا غدا وفى الحقيقة نكون بالأمس .
10 صفحات بيضاء
الفصل الثانى
الزمن يقف مترنحا على ساق واحدة،يتمنى لو يتمدد كالحياة أو يرحل كالموت، أنظر إليه بنشوة اريده مرهقا مثلى.
10 صفحات بيضاء
الفصل الثالث
عيونى مازالت تنظر لسقف الغرفة أراقب ناموسة تداعب الضوء، تتخيل أنها أصبحت فراشة ،اجنحتهاالصغيرة الفقيرة لاتذهب بها بعيدا، تخاف ان تقترب فتحترق وأن تبتعد فتغترب.
الباب الثانى :الشهادة
الفصل الأول
وعيونى مفتوحة أتانى الحلم، لم يكن أبيض ككل مرة ،بل ملونا، كانت ترتدى قميصا ورديا عليه ضفائر شقراء، ولاشىء آخر، كانت تحمل الريح بين يديها .
10 صفحات بيضاء
الفصل الثانى
، لم أكن أرغب في الحديث عن طفلتها التي تحملها وتقول أنهاهدية غريب كان يجلس بجوارها في السينما، كانا يشاهدان فيلم «الرجل الطائر»حين اقتطع جزءا من جسده ووهبها ابنتها ،بعد العرض سافرت على مركب الخلود إلى البر الغربى
الفصل الثالث
غراب أسود، يرتدى ريش الببغاء ويتحدث بلسانه ...يقلد المطربين والبارزين..الجمهور ..حشد كبير ...يصفقون له ..مرحون ...يضحكون ...يصرخون ....مطالبهم كثيرة: قلد الست .....نريد أن نسمع الأستاذ ...خطبة الزعيم ..وعظ الشيخ
10 صفحات بيضاء
الفصل الثالث
سرادق عزاء ..الجميع يرتدى ملابس السهرة، النساء يرفلن في ثياب مكشوفة الصدر والظهر، مكتوب على ظهر احداهن: عزاء عمل
10 صفحات بيضاء
الباب الثالث: اليوم الموعود
الفصل الأول
ضجيج واصوات مختلطة ...قرد يقفز مبتهجا ....نملة تسير بعشوائية مذعورة ... هذا الزحام لا أحد
10 صفحات بيضاء
الفصل الثانى
الطوابير ممتدة ..الكل حاضر ..السوق يسد الأفق والسلع متراكمة بجوار البحر..الأمواج جامحة والقمر مستاء
10 صفحات بيضاء
الفصل الثالث
يجلس على العرش، وحيدا، الجميع صرعى، لاصوت لانفس لاحياة ولاموت ...الزمن يتدلى من سقف العالم منتحرا
10 صفحات بيضاء وكلمة واحدة «ختام»
كان هذا مخطوط الرواية، وكان على الأستاذ ان يملأ الصفحات العشر البيضاء في كل فصل ولكن عقله كان مثلهم.
اقترب موعد التسليم ،جاء موعد التسليم، تأخر موعد التسليم ...لابد من التسليم ...لم يجد الأستاذ بدا من أن يسلم الناشر المخطوط، اثبات لحسن النوايا ،وليمنحه ذلك مزيدا من الوقت لعل الوحى يهبط عليه أو حتى الزيف.
كان يتحاشى الردعلى تليفونات الناشر، بالتأكيد يتعجله، ربما يريد ان يفسخ العقد بينهما أويسترجع المبلغ الذي دفعه مقدما ..كان يفضل عدم الرد، حمدالله انه أشاع أنه لايمتلك موبايل.
كان التليفون يرن من جديد عندما دخل سكرتيره، «ارد يا استاذ؟» ولم لا، فليعرف ماذا يريد الناشر لينهى هذا التوتر، «صحيح يا أفندم، هذا الخبر بالتأكيد سيسعده ،حضرتك ناقد خبير، هههههه معقول يا أفندم حضرتك عبقرى ...ستصبح حدث الموسم، أيوه يا أفندم.. نايم ..، تشرف، حاضريا أفندم هبلغه، مع السلامة»
نظر الأستاذ لسكرتيره متطلعا، فأجاب الأخير: مبروك يا أستاذ، حفل التوقيع الأثنين القادم ،سيحضر الأستاذ عنتر ليعطيك الشيك الساعة الثامنة مسا اليوم، بيقول أن الرواية عبقرية ،سيحولها لمسابقة، يطلب من كل قارى أن يملأ الصفحات البيضاء كما يحلو له، وحضرتك تختار أفضل سرد ...وسيكون هناك جوائز للثلاث فائزين الاوائل ...هذا سيرفع التوزيع ويزيد الأرباح ...مبروك يا أستاذ ...حضرتك تعبت ومن جد وجد .