x

مي عزام حديث الثلاثاء... ذات الجدائل مي عزام الإثنين 31-08-2015 22:06


كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، في مدينة ما في زمن ما، وُلدت طفلة جميلة، مختلفة عن كل البنات، بعد ولادتها حملتها القابلة لوالدتها، ما إن شاهدتها هذه الأخيرة حتى صرخت وقالت بفرح: سبحان الله. المولودة الصغيرة كان شعرها أحمر ناعماً يصل إلى نصف ظهرها، لم يشاهد أحد مولودا له مثل هذا الشعر الجميل الطويل.. ضحكت الأم ببهجة وقالت: ما شاء الله شعرها يمكن تضفيره، سأسميها «جديلة».

كانت «جديلة» وحيدة والديها، تفننت الأم في رعاية شعرها الذي كان ينمو بصورة مذهلة، حينما بلغت الثالثة من عمرها كان يصل للأرض، ناعماً كثيفاً لامعاً، كل من رآها كان يصرخ بفرح: سبحان الله. أصبحت «جديلة» حديث الناس في المدينة، كانت النساء جميعا يتمنين أن يكون لبناتهن مثل شعر «جديلة» كن يطلبن من والدتها شراء جزء من شعر «جديلة» ليصنعن منه شعراً مستعاراً لبناتهن، الأم كانت ترفض بيع شعر ابنتها الوحيدة وردها كان حاضرا: كيف أبيع عطية الله.. شعر جديلة جزء منها لا يمكن أن أتاجر به.

كان شعر «جديلة» يحتاج لعناية خاصة، تقضي الأم ساعات في غسيله وتجفيفه وتسريحه وتضفيره، الجدائل طالت وطالت، لم يعد بإمكان الطفلة اللعب مع أقرانها، الجميع يتعثر بجدائلها حتى هي، في المدرسة كانوا يدبرون لضفيرتها مكانا لتجلس بجوارها بعد أن وصل طولها لمترين وأكثر، كانت تحمل حقيبتها المدرسية على ظهرها وضفيرتها تلفها على ساعدها.

الفرحة تتبدد ليطل العبء من عباءتها، وماذا بعد؟ كانت «جديلة» ووالداها يسكنون في الدور الثالث، كانت أحيانا تجلس حزينة في شرفة حجرتها، ضفيرتها كشجرة لبلاب عملاقة تصل إلى الأرض، شعرها جميل ناعم كثيف ولامع مثل الدمعة التي كانت تسقط على خدها بين حين وآخر.

طلبت من أمها يوما أن تهدي أجزاء من شعرها لنساء المدينة، قالت لها: «لا أريد ان أحتفظ بهذه الأمتار كلها، سأحتفظ بما يكفيني وليشاركني الآخرون شعري»، ردت الأم بحسم: لن نبيع منحة الله، ولكن حان الوقت لنستفيد من ثمارها، طالت ضفيرتك بما يكفي لتصبح أسطورة، العالم كله سيأتي ليشاهدك، سيتحول بيتنا الصغير لمزار سياحي، تحدثت مع حاكم المدينة، سيضع صورتك وعنوان منزلنا على ملصقات المدينة الدعائية وما تنشره من كتيبات سياحية، وسنقتسم الدخل بيننا، ستقدمين خدمة جليلة لمدينتك ولوالديكِ.

الآف كل عام يأتون لمشاهدة «جديلة» كانت تجلس على مقعد ضخم تبدو فيه ضئيلة وكأنها دمية صغيرة، ترقد ضفيرتها تحت قدميها وتتثاءب بملل، السائحون يلمسون شعرها بلا استئذان أو خجل، بعضهم كان يجذبه ليتأكد أنه حقيقي، وبعضهم في غفلة منها كان يقص خصلة ليحتفظ بها كتذكار، كانت تجلس ساعات طويلة كل يوم كتمثال من الجص، كلوحة زيتية معلّقة على جدار متحف بالمدينة، كقلادة ذهبية في فاترينة صائغ.

تحولت «جديلة» لمصدر دخل لأسرتها ومزار سياحي للمدينة، «فرجة» يدفع السائحون تذكرة لمشاهدتها..غريبة من غرائب الدنيا وعجيبة من عجائبها..

الضفيرة تزداد كثافة و«جديلة» تزداد نحافة، الضفيرة تزداد لمعة و«جديلة» تنطفئ بهجتها، الضفيرة تتمدد و«جديلة» تنحسر عنها الصحبة، الضفيرة تنتصر و«جديلة» تنهزم.

كم مضى من زمن حتى جاءت النهاية.. لا أحد يرتدي ساعة في الحواديت.. زمن الحواديت مثل الأحلام طويل في الواقع قصير في الحقيقة.

صباح يوم ككل الأيام التي مضت في الحدوتة، دخلت الأم السعيدة بما امتلكته لتوقظ «جديلة»، الزائرون على وشك الحضور والفتاة تأخرت في النوم، فتحت باب الحجرة وهالها ما رأت، صرخت لم تكن صرخة فرح ولم تقُل سبحان الله، لكنها قالت: أغيثوني.. «جديلة» شنقت نفسها بضفيرتها.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية