بدايةً، دعونا نؤكد احترام قرار القضاء أيا كان، بالتأكيد هناك وجهة نظر منطقية تستند إلى القانون حين صدور هذا القرار من هذه الجهة القضائية أو تلك، إلا أن ظاهرة حظر النشر هذه أصبحت مثار حديث الشارع والمنتديات على السواء، كما هى مثار إزعاج لوسائل الإعلام على مختلف أنواعها، الرأى العام من حقه متابعة أحداث بلاده كَبُرَت أو صغُرت، كما أن وسائل الإعلام من حقها ممارسة دورها فى تغطية الأحداث، كل الأحداث، فما بالنا إذا كانت أحداثاً من الوزن الثقيل، ناهيك عن أن الشفافية فى حد ذاتها تقطع الطريق على الشائعات، إن إيجاباً أو سلباً.
بالتأكيد الهدف الرئيسى من حظر النشر يستهدف صالح سير العدالة، بعدم العبث بأدلة أو شهود، بعدم الضغط النفسى على هذه المحكمة أو تلك النيابة، هكذا أتصور، إلا أن الرأى العام أصبح يخشى العكس، ربما من جملة ممارسات ما، ربط المواطن من خلالها بين القضاء والسياسة، أو بين قرار الحظر وحالة الشارع، المعادلة إذن صعبة، إلا أن الأمر يصبح أكثر صعوبة حين تكون القضية على قدر كبير من الأهمية، المتهمون فيها عدد كبير من الشخصيات العامة، يمثلون السياسة، والإعلام، والأحزاب، والجمعيات الأهلية، والنقابات، والائتلافات، وغيرها من المنظمات والتنظيمات، باختصار: من ذوى النفوذ، كما فى إحدى القضايا الكبرى المحظور النشر بشأنها الآن.
المخاوف هنا واضحة، ومحقة فى الوقت نفسه، مخاوف من إهمال القضية مثلا، أو تعمد إهمالها، قد لا ترى النور، هكذا يردد الرأى العام، لذا لا يجب بأى حال ترك الأمور هكذا للشائعات أو الاستنتاجات، مهما كانت نوعية الشخصيات التى تضمها ملفات هذه القضية أو تلك، ما بالنا إذا كانت القضية تتعلق مثلاً بالأمن القومى للبلاد، بخيانة عظمى، أو بتمويل أجنبى جرّمه الدستور والقانون، إباحة النشر فى حد ذاتها سوف تكون رادعة لأوضاع مازالت مستمرة حتى الآن، قد يكون نفس المتهمين هم من يمارسون نفس الأدوار الآن، بل هكذا الحال فى الأغلب الأعم، النشر سوف يردعهم ويردع غيرهم، حين النشر قد يتقدم مواطن ما بأدلة تخدم سير العدالة، هى رؤية منطقية يجب وضعها فى الاعتبار.
الأهم من ذلك هو أن مثل هذه القضايا يجب ألا تفقد بريقها، قد يكون عامل الوقت هو الأهم بالنسبة لبعضها، خاصة من هذه النوعية، اعتدنا سماع أنباء فرار هذه المجموعة أو تلك من البلاد بطرق غير شرعية، لمجرد إحساسهم بالخطر، حالات الوفاة والمرض أيضا، التغيرات السياسية التى تطرأ على المجتمع لسبب أو لآخر قد لا تكون هى الأخرى فى صالح العدالة، الجهة التى أحالت القضية إلى المحاكمة تطرأ عليها تغييرات مستمرة، قد لا يتواجد لأى سبب هؤلاء الأشخاص الذين أعدوا القضية للمحكمة، هى إذن فقدت الجزء الأكبر من أهميتها، أصبحت بلا أب، بلا راعٍ على أرض الواقع.
من حق الناس إذن أن تتساءل بشك وريبة، ومن حق السلطة الرسمية أيضا أن تتصرف بالطريقة التى تراها مناسبة لتحقيق العدالة، من هنا جاءت المعادلة الصعبة، الجميع فى وضع لا يحسدون عليه، إلا أن اللغط يتزايد فى المجتمع، وبصفة خاصة فى وجود وسائل التواصل الاجتماعى والتوسع فى استخدامها، ومحاولات الاجتهاد المتفاقمة، بل وتعمد نشر الشائعات، الأمر لم يعد يتعلق بقناة تليفزيونية أو أكثر، كما لم يعد يتعلق بثلاث صحف رسمية أو أكثر، قد يخرج الأمر عن السيطرة بالفعل، وقد خرج كثيرا من قبل، فلا قوانين الحبس كانت رادعة، ولا قوانين الغرامة كذلك، التطفل وحُب المعرفة هما الأصل فى الأشياء، لذا كان من المهم فى مثل هذه الظروف إصدار بيانات رسمية دورية توضح خط سير مثل هذه القضايا المحظور النشر بشأنها، هو أضعف الإيمان.
البعض يرى أن حظر النشر يرتبط، فى أحيان كثيرة، بنوعية الشخصيات التى تضمها القضية، أكثر من ارتباطه بالقضية ذاتها، أو نوعية القضية، إلا أن ذلك الرأى قد يصطدم بما حدث مع الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فلم تقع أى من قضاياه تحت طائلة الحظر، بل على العكس، كان الرجل عرضة للهبش والنبش طوال الوقت، وربما كانت الشائعات أكثر من الحقائق طوال فترة سير المحاكمات.
لكن ما هو جدير بالتسجيل أن معظم ما يتم الحظر بشأنه هو من القضايا الجماهيرية التى يهوى المجتمع متابعتها، ليس ذلك فقط، بل تسوده فى الوقت نفسه حالة واضحة من الارتياح، وذلك لأن المتهمين فيها عادة من النوع الردىء، الذين عاثوا فى الأرض فسادا، وقد ضاق بهم المجتمع لسنوات طويلة، فقد كان الجميع يعلم كم أنهم متورطون، إلا أن القانون كان دائماً يبحث عن الدليل، أما وقد توافرت الأدلة، فيصبح من حقنا المتابعة، لحظة بلحظة، وبشفافية ووضوح، هى وجهة نظر شعبية أيضا يجب وضعها فى الاعتبار.
أعتقد أنه يمكن بالفعل إعادة النظر فى هذا التصور لبعض الإجراءات، خاصة ما يتعلق منها بحظر النشر تحديدا، إلا فى أضيق الحدود، مثل قضايا القتل، أو السرقة، أو ما شابه ذلك، أما ما يتعلق بالشخصيات العامة، فمن المهم أن تكون قضاياهم عامة، وذلك لأن سيرتهم الذاتية تصبح ملكا للشعب، ما بالنا إذا تعلق الأمر بفساد، أو أمن قومى تحديدا.
هى قضية للبحث والمناقشة، مع إعادة التأكيد على أننا لا نملك إلا احترام أحكام وقرارات القضاء بمختلف درجاته.