منذ أن انطلقت سهام انتفاضة «طلعت ريحتكم» اللبنانية ضد الفساد القائم في الحكومة اللبنانية وخلو المقعد الرئاسى وانتشار الزبالة في معظم أنحاء بيروت، ولا حديث للسوشيال ميديا سوى المظهر الذي خرجت به الفتيات والسيدات المتظاهرات في لبنان احتجاجا على تردى الخدمات والأحوال المعيشية هناك، وكأن المظاهرات الاحتجاجية ومضمونها قد اختزلت في شكل السيدات (غيراللائق للحدث من وجهة نظر المعلقين) اللاتى خرجن للتعبير عن رأيهن فيما يجرى داخل بلدهن، في تسطيح وتهوين من قيمة الحدث الأمر الذي أثار ردود أفعال غاضبة داخل لبنان وبالذات من السيدات !!.
حقيقة لهن كل الحق في هذا الغضب، فالتعامل بسطحية للأمور والنظر إليها من زاوية واحدة هي زاوية الجنس، أمر غير مقبول ويقلل من قيمة الحدث وأهميته للشعب اللبنانى الذي طالما آمن بالحرية ومارسها، لا احد يستطيع الاعتداء على حرية الآخر في ملبسه أو اعتقاده الدينى ،والذى دفعوا فاتورته باهظة طوال السنوات الماضية من حروب أهلية وطائفية أكتوى بها اللبنانيين .
لا أحد ينكر أن اللبنانيين مسلميهم ومسيحييهم، يتمتعون بهامش كبير من الحرية، انعكست على سلوكهم في المجتمع بشكل واضح، ربما لا تتسق ومعتقدات المجتمعات المنغلقة اجتماعيا، غير أنها نابعة من ثقافة ووعى يتسق مع السلوك والفعل، بعكس كثير من مجتمعاتنا العربية التي تعيش حالة من الفصام (الشيزوفرينيا)، ما تفعله عكس ما تقوله، وهذه قمة الازدواجية التي عصفت بالشعوب العربية في الآونة الخيرة وبالذات مع دخول الفكر الوهابى الوارد من الجزيرة العربية وما صدرته من أفكار ظلامية متشددة، أطفات بريق التنوير والاطلاع على ثقافة الآخر .
ورغم أن مصر كان لها الريادة في مسيرة التنوير الحضارية والفكرية والثقافية والفنية، إلا أن من المضحكات المبكيات أن يتراجع هذا الزخم الذي ضحى من أجله قادة الفكر، أمثال طه حسين ورفاعة الطهطاوى والعقاد ونجيب محفوظ وهدى شعراوى وغيرهم كثيرون أملا في اصلاح المجتمع وانتشاله من ظلمات الجهل والتخلف، والخروج به إلى عصر التنوير والثقافة والوعى، نجد أن رياح التطرف الدينى تهب من جديد لتهدم كل ما هو تنويرى لا يخضع لقيم وعقيدة لبست ثوب التطرف، لا تعرف الوسطية والاعتدال طريقا لها، فكانت النتيجة تفريخ السلفية الوهابية التي قضت على عصر التنوير الثقافى في مصر، وأفرزت اسوأ ما في المجتمع من تطرف فكرى يتناقض مع السلوك على أرض الواقع !!
الاحتجاجات التي خرجت في لبنان تتسق مع السلوك والفكر للمجتمع اللبنانى، لا ينظر فيه الرجل إلى المرأة بشهوانية إذا ما كانت ترتدى الشورت أو التي شيرت العارى، فهذا ليس مما يثير شهواتهم لأنه جزء أصيل من ثقافتهم، النظر للجوهر والمضمون هو الأصل في الموضوع وليس المظهر والشكل الخارجى الذي لا يعبر عن العمق أو الفكر، فيما تركنا نحن التعليق على مضمون تلك الانتفاضة وأهدافها ولماذا وصلت إلى هذه النقطة ؟! وماتعرض له المتظاهرين أيضا من قمع واعتقال واعتداء بالضرب، وانخرطنا في التعليق على لباس المرأة اللبنانية للشورت والتى شيرت العارى !!
هذه السطحية التي تناول بها رواد الشوشيال ميديا انتفاضة «طلعت ريحتكم» كان من الطبيعى أن تثير ردود أفعال غاضبة من سيدات لبنان، وترتد على أصحابها من المعلقين، فترد الصاع صاعين، إذ تقول إحدى السيدات اللبنانيات تعليقا على الكومنتات التي تتعرض للباسهم «يكفينا أن ملابسنا لم تكن مثار تحرش الرجال أو شهتوهم، ونحن نفتخر كثيرا أنه لم يركض مائة الف شخص وراء فتاة واغتصبوها أمام شاشات تليفزيون العالم كله وأمام الاعلام كما حدث في مصر!! نفتخر كثيرا أن السيدات تتحرك بحرية وراحة دون أن يتحرش بهم أحد هذا مثار فخر واعتزاز لا مثار دهشة وتعليقات سخيفة.. أنتم من طلعت ريحتكم !!»
إلى متى نظل نعيش حالة الازدواجية التي جعلت منا «مسخ»، لم يعد قادر على الرجوع إلى حالته الأولى، ولا يستطيع الاستمرار فيما هو عليه! كفانا نهشا في الأعراض وتحرشا بالالفاظ والمناداة بالفضيلة ونحن أبعد ما نكون منها !!