«هذه الزنزانة تركها الشيخ جابر للشيخ أحمد»..هكذا كتب أحدهم تلك الجملة بخط بدائي متعثر على واجهة إحدى زنازين واحد من سجون طرة، بطبشور متهالك.
استوقفتني الجملة وأنا أتجول داخل سجون طرة عام 2011، في زيارة عمل، بينما أفكر.. لماذا ترك الشيخ جابر زنزانته للشيخ أحمد؟ ولماذا اختار أن يوثقها على هذا النحو؟ بدا الأمر مرحًا.
الأجواء العامة للسجن حينها، أوحت أن الشيخ جابر تركها هدية للشيخ أحمد لأن شيئا ما مميزًا فيها، لكني لم أتبينه إلى الآن، ومازالت الأسئلة تتقاذفني حتى اليوم، حول الجميل الذي أسداه جابر لأحمد..
استرجعت كثيرًا من القصص النبيلة التي وثقتها جدران السجون لمعتقلي التيارات الإسلامية، كذلك الرجل الذي قضى سنوات اعتقاله خادمًا لأحد أصحابه المعتقلين الذي كان يعاني من إعاقة جسدية، فضلا عن حزمة أمراض أخرى كانت تنهش فيه لدرجة أقعدته تماما.
وظل الصاحب وفيًا لخدمة صاحبه سنوات طوال، يصطحبه إلى قضاء حاجته، ويعتني بأدويته، ويطعمه ويلبسه وينظف جسمه. الأمر الذي دفع إدارة المعتقل حينها إلى ربط مصيريهما سويًا، فإما أن يتم الإفراج عن كليهما، وإما أن يتم احتجاز الخادم لحين الإفراج عن أو وفاة المخدوم. فمن أين يأتون لرجل أشبه ما يكون بجثة هامدة بخادم كهذا يعتني به؟
في المتناول عشرات القصص عن نبل أفراد كثيرين من أبناء تيارات إسلامية مختلفة، لو حكاها الحاكي دفعة واحدة لظننتهم أطهر ما خلق الله منذ برأ الأرض وابتدأ الكون.
لكن هل هذه هي الحقيقة الكاملة؟
(2)
يطاردنا على مواقع التواصل الاجتماعي طوفان من الرسوم العاطفية التي تجسد علاقة حب بين شاب ملتح وفتاة منتقبة أحيانا ومخمرة أحيانا أخرى، تحت مسمى «رومانسية بنكهة إسلامية».
هذه الصفحة المتخصصة في نشر هذا الفصيل من الرسوم، تؤكد على قيمة بعينها: نحن إسلاميون.. ورومانسيون!
وهي إجابة نشأت للرد على سؤال لم يتوجه به أحد من الأساس حول جواز الجمع بين «إسلامية» الميول ورومانسية «الأداء».
الزوجان هنا يطاردان بعضهما البعض لأجل صلاة الفجر، وتهدد الزوجة زوجها بأن تسكب عليه دلو ماء كي يستيقظ، وفي موضع آخر يطلب الشاب الملتحي يد زوجته في دبر كل صلاة كي يسبح عليها.
هناك رسم كارتوني لذات الشاب الملتحي وزوجته المنتقبة، بينما يظللهما قلب أحمر نابض، وهو يقول لها: أنت أنا.. والجنة «وطن» لنا.
فضلا عن إعادة انتاج بوستر فيلم الآنيميشن الشهير «UP» بحيث يبدو رومانسيا إسلاميًا هو الآخر.
ثم سيل من الصور لشباب وفتيات يرتدين ملابس أنيقة، ويقفون وسط حدائق مبهجة، إما للصلاة أو للعب مع أطفالهم، بينما الشاب ملتح والزوجة منتقبة أو مخمرة، أو أضعف الإيمان محجبة. وكل هذا لأجل تسويق فكرة أن هناك بالمقدور أن تحيا حياة ملأى بالعواطف الملتهبة وسط سياق «إسلامي».
قد تبدو الصور ممجوجة وسمجة ودعائية إلى حد سخيف. لكن اللافت هو هذا الإصرار على تصدير هذه الصورة والمضي قدما في نشر بوسترات «الرومانسية الإسلامية».
(3)
ربما كان الضغط الأمني والسياسي والمجتمعي على معظم التيارات الإسلامية بمختلف أطيافها، والذي استتبع نبرة كراهية مجتمعية عنيفة ضد عموم «الإسلاميين»، هي التي ساقتنا إلى هذه النقطة، التي يقف فيها معظم أبناء هذا الفصيل في خندق رد الفعل.
البعض اختار أن يقتل ويفجر ويطلق الرصاص، والبعض اختار أن يؤيد ويهلل لكل هذا الإجرام والانحطاط، والبعض اختار أن يحاول إعادة تسويق الفكرة «الإسلامية» بصورة براقة ومن مدخل مختلف.
كثيرا ما تمركز الإسلاميون في خانة رد الفعل. ربما بسبب عقود من الهجوم الإعلامي عليهم، لكنه كان في كثير من تجلياته هجومًا مشبوهًا تعوزه الدلائل.
غير أن هذه المرة ومع الكراهية الشعبية التي تتكرس مع الأيام ومع الحوادث الإرهابية التي تسقط ضحاياها في كل ناحية ومنزل، يجد الإسلاميون أنفسهم بين شقي رحا.
فقد أصبحوا ربما للمرة الأولى بحاجة إلى تسويق فكرة المجتمع الإسلامي لأنفسهم قبل أن يقنعونا نحن بها بعدما تسربت الشكوك والهواجس بين ثغرات البنيان المتين!
الإسلاميون، باختلاف أطيافهم، مجتمع إنساني له احتياجاته المادية والعاطفية في الحياة، يكيفها ويضبطها وفقا للمحددات التي قرر أن يلتزم بها، لكنه لايفرط في شيء مقتضيات «بشريته» و«إنسانيته».
لكننا وسط المعركة سنجردهم من إنسانيتهم وسنراهم وحوشًا بحاجة للتنكيل والتكبيل قبل أن تلتهمنا، وهم بدورهم سيروننا وحوشًا بلا قلب ولا عقل، وليس من سبيل سوى التخلص مننا.
(4)
داخل المجتمعات الإسلامية المغلقة، بأطيافها المختلفة. هناك رجال نبلاء وأزواج رومانسيون وسيدات مكافحات في الحياة، هناك شيوخ كبار في السن أجلاء وشباب متعففون دمثو الخلق وفتيات كالزهور، صبوحات الوجه كريمات الخلق.
لكن في نفس ذات المجتمعات يصطف حشود من القتلة والقتلة المحتملين، وعشرات من أسافل المخلوقات وأحطها طوية وأقذرها لسانًا، هنالك نساء عدوانيات حقودات وأصحاب خونة، ورجال منتفعون، وأفاقون ونصابون.
لكن كل طرف مننا اختار أن يروي نصف الحكاية وأن ينظر إلى نصف الحقيقة.
لذلك حين يحاولون تسويق أن هناك «رومانسية بنكهة إسلامية»، ربما علينا أن نفهم أنهم يحاولون إقناع أنفسهم أنهم بمقدورهم استكمال الحياة إسلاميين ورومانسيين في آن معا، وأنهم يحاولون إقناعنا أنهم يستمتعون بالحياة ولا ينقصون عنا شيئًا..
بل نحن الموحولون في مشاكلنا اليومية، فلا حصلنا «الإسلامية» ولا جادت لنا أحوال الحياة وطبائع الدهر بـ«الرومانسية». ومن ثم فهم أعلى منا كعبا وأعظم منا نصيبا.
وهي، لعمرك، المجادلة السخيفة إياها والكبر المعهود.
___
مقال آخر يرجع إليه في ذات الصدد:
لماذا بقي الإسلاميون إسلاميين؟
http://www.almasryalyoum.com/news/details/570870