أصعب شيء على الكاتب، أن يأتي موعد المقال، وهو في حالة خصام مع الكلام، وللأسف الشديد تنتابني هذه الحالة كلما سال الدم، وكلما عم الصمم، وتكرر الكلام دون اهتمام.
في مثل هذه الأوقات التي يعلو فيها الصياح والصراخ، و«جنونة الأسياد» تنفجر بداخلي الأسئلة المحبطة عن جدوى الكتابة، وقيمة الكلمة في مجتمع لا يسمع جيدا، ولايقرأ جيدا، ولا يفكر جيدا، والأسوأ أنه لا يصمت أيضا
المؤسف أن مهنتي تخرضني على «الرذيلة».. رذيلة الكلام في الوقت الذي ينبغي فيه أن أصمت، لذلك تعلمت الكتابة بالصمت كنوع من الاحتراف المهني، وأستطيع بسهولة أن أملأ هذه المساحة دون أن أقول شيئا، لكنني هذه المرة لن أفعل، فقد فكرت أن أضع القارئ في نفس المأزق الذي يعيشه الكاتب، لذلك عليك أن تفكر معي في إجابة على هذه الاسئلة:
* ماهو الموضوع الأنسب لهذا المقال في ظل هذه الحالة التي نعيشها؟
* هل هذا الموضوع جديد، ولم يتطرق إليه كاتب من قبل؟
* هل يتضمن حلا أو معرفة تساعد شخصا أو جماعة وتفيدهم في تطوير حياتهم؟
تخيل مثلا أنني اخترت أن أكتب عن اعتصام أمناء الشرطة في محافظة الشرقية (لا أعرف لماذا الشرقية تحديدا؟!).. هل هناك من جديد يقال؟
في أعقاب تنحي مبارك، كنت مع كثيرين من أبناء هذا الوطن التائه، نتحدث عن ضرورة هيكلة الشرطة، وقد عكفت على دراسة هذا الأمر من كل الجوانب، وتحاورت مع عدد من المهتمين بذلك من قيادات الشرطة والخبراء في هذا المجال، وطالعت دراسات كثيرة، وفتحت الملف على صفحات «المصري اليوم» في صفحة متخصصة بعنوان «اتجاهات».
كان الكلام كثيرا، لكن شيئا لم يحدث، حتى أن الصفحة توقفت فجأة دون أن تكمل مشروعها في استكمال ملف الأمن، واقتحام ملفات الصحة والتعليم والإعلام، وغيرها من الملفات الساخنة التي قدمت بها خطة مكتوبة للعام الأول كاملا.
بلاش الأمن.. تخيلوا أنني اخترت أن أكتب عن قانون الخدمة المدنية، فماذا أقول؟، هناك وجهة نظر تستخدم مصائب الجهاز الإداري كضرورة للتنظيم والتصحيح والتطوير، وهذا عظيم، وهناك وجهة نظر تتحدث عن الجانب المعيشي وحق المواطن في ضمان وظيفته، وإعالة أسرته، لأن أفراد هذه العائلات هم المدد الذي يصنع مستقبل البلاد، وهذا عظيم، وهناك من يشيد بضرورة التحديث واتباع الأساليب العصير ودخول مرحلة الرقمنة، وهذا فل الفل!
لكن ما العمل إذا تصادمت هذه الضرورات وتقاطعت مع بعضها؟، هناك من يقول: الحكومة تعرف أكثر، ولها أن تختار المدخل الذي تراه صحيحا، وهناك من ينتقد طريقة صياغة القانون وأسلوب تمريره المفروض بلا حوار مجتمعي ولا ضوء إعلامي يفسره للمواطن التائه أيضا!
بلاش الخدمة المدنية، تخيلوا أنني اخترت الكتابة عن الانتخابات البرلمانية، ربما يسألني أحدكم، وما لزوم البرلمان إذا كانت السلطة التنفيذية سنت أكثر من 90 قانون، دون انتظار لذلك البرلمان المتأخر؟
القوانين تكاثرت في بلدنا كالذباب، ولا أحد يحبها، لأنها برغم فوائدها الخفية، لاينال الناس منها إلى الأذى.
البلد محسودة يا جدعان، ولا أمل في شفائها إلا بحلول علمية، مثل أن ندق لها زار، أو نرقيها من العين...
حادرجا بادرجا من كل عين زرجا....!!