في الأربعينيات خرج المولود من رحم أمه، وفي الخمسينيات كتب أول مجموعة قصصية في حياته، وفي الستينيات عرف التعذيب في سجون جمال عبدالناصر، وفي السبعينيات فُصِل من العمل ومُنِع من الكتابة، وفي الثمانينيات أصبح رئيس قسم الأدب في «أخبار اليوم»، وفي التسعينيات أسس «أخبار الأدب»، وفي الألفية الثالثة حصل على جائزة الدولة التقديرية.
«أعلم أن العالم الدنيوي الذي نحن فيه الآن له انتهاء يؤول إليه، لأنه محدث، وحكم المحدث أن ينقضي».. «التجليات».
يرقد الآن الروائي جمال الغيطاني في العناية المركزة تحت جهاز التنفس الصناعي يُقاوم الموت بمستشفى الجلاء العسكري، مفتقدًا أقوى سلاحه «الكتابة».
«إنني أمرض عندما لا أكتب.. الكتابة عندي ليست مقاومة للنسيان، بل مُقاومة للموت».. حوار مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية.
«الغيطاني» منذ الصغر مولع بالحكي، مارس تلك الهواية مع أفراد أسرته، قرأ وهو في السابعة من عمره، بدأ برواية «البؤساء» لفيكتور هوجر، بعدها بـ3 سنوات، ظهرت رغبته في الكتابة، وفي عام 1959 كتب أول قصة وعنوانها «نهاية السكير» وكان وقتها في عمر الخامسة عشرة، ودخل بها مسابقة نادي القصة، وكانت أول قصة تنشر له عام 1963 في مجلة «الأديب» اللبنانية، لكنه أراد التميز والاختلاف، فلجأ بعد ذلك إلى النصوص القديمة، صنع أساليب حققت له حرية أكبر في السرد، فأخرج «التجليات»، التي مزج فيها بين الشعر والخيال، والفلسفة والتصوّف، حتى وصفها محمود أمين العالم بأنها «ظاهرة جديدة في الأدب المعاصر»، وقال عنها أحمد بهجت: «أي كتاب هائل هو كتاب التجليات».
تأثر «الغيطاني»، الذي ترأس مجلة «أخبار الأدب» 17 عامًا، في كتاباته بمقولة لمولانا جلال الدين الرومي: «إذا أردت أن تنظر إلى مركز العالم، فانظر إلى ذاتك».. فهو يرى أن الكاتب يعتمد ذاته كركيزة، وينطلق منها إلى ما هو غير متصل بها، كما حدث في «التجليات»، له أعمال عديدة منها: «أوراق شباب عاش منذ ألف عام، الزيني بركات، وقائع حارة الزعفراني، دفاتير التدوين، مصطفى أمين يتذكر، نجيب محفوظ يتذكر، وتوفيق الحكيم يتذكر».
لـ«الغيطاني» قناعات فكرية خالصة، يُعبر عن رأيه دون لف أو دوران، لا يهتم بردود الفعل، الوطن عنده فوق كل شيء، أصيب بالاكتئاب فترة ما، فالقضايا العامة بالنسبة له كانت خاصة، سجنه نظام جمال عبدالناصر، حرمه من هوايته الأولى «الكتابة»، لكنه يرى أن «عبدالناصر» قيمة كبيرة تعيش مصر على أثرها حتى الآن، واختلافه معه في التفاصيل فقط.
«كتبت ثلاث قصص على ورق بفرا السجائر، وأثناء فترات التحقيق، أو فترات التعذيب في سجن القلعة، كنت أحيانًا لا أجد ما أكتب عليه فأضطر للكتابة بالمخيلة».. حوار مع صحيفة «الحياة» اللندنية.
فيما يرى أن أنور السادات هو أكبر خطأ في تاريخ ناصر، وما تمر به مصر حاليًا هو نتاج السادات، يؤمن بثورة 25 يناير، ويعتبر أنها ذو شقين، الأول بريء لا أحد يستطيع التشكيك فيه ويتعلق بخروج البسطاء من أجل التغيير، والثاني خفي، ومرتبط بمحاولة إعادة صياغة الشرق الأوسط، أما «30 يونيو» بالنسبة له لا تقل عن ثورة 1919، والرئيس عبدالفتاح السيسي مثل سعد زغلول لا منافس له، لكن رغم ذلك يعترف بوجود أخطاء كارثية وقعت بعد الثورة، لا يُمانع من وجود الجيش في المشهد السياسي، فالبلاد في رأيه مازالت مهددة، ومحاولة إسقاط الدولة المصرية مازالت قائمة من قبل قوى دولية وإسلامية.
حافظ «الغيطاني» على استقلاليته، ولم يسمح للسلطة بالهيمنة عليه، فهو يرى أن «أخبار الأدب» رغم أنها قومية إلا أنها كانت أقوى جريدة ثقافية معارضة، وفي أدبه كان ناقدًا عنيفًا، في روايات مثل: «حكايات المؤسسة»، و«رسالة البصائر» وفي عام 1974 كتب رواية عنوانها «ذكر ما جرى» تخيّل فيها بيع مصر في مزاد علني، تزامنًا مع فترة الانفتاح الساداتي، كما أن اسمه كان ممنوعًا من الذكر لمدة 10 أعوام في «أخبار اليوم»، وجرى وضعه في قائمة الشيوعيين.
مرّ «الغيطاني» في حياته بتجارب عديدة، لم يندم على أي شيء سوى عمله في الصحافة الثقافية، وقال إنه لو عاد به العمر لن يعمل في الصحافة وسيتفرغ للكتابة.