x

حسن حنفي الباشـــا والفـــلاح حسن حنفي الأربعاء 19-08-2015 21:50


تناقلت وكالات الأنباء خبر ضرب ضابط الشرطة المحامى بالحذاء فشج رأسه وأسال دمه بين مصدق ومكذب. وكأننا فى العصور الوسطى إن لم يكن أسوأ. فالحذاء رمز القوة من طرف والإهانة من الطرف الآخر. استعمله أحد الوطنيين العراقيين لرشق رئيس الولايات المتحدة السابق لغزوه وطنه العراق وفى زيارته السرية لها خوفا من الاغتيال لما اقترفه من جرائم فى حق شعب العراق. والمحامى هو رمز القانون والدفاع عن المظلومين، فهل يكفى إضراب المحامين احتجاجا على هذه الإهانة لزميلهم ولشرف المهنة؟ بل هل تكفى زيارة الرئيس للمحامى والاعتذار له باسم المحامين كلهم حتى لا تتوقف مصالح الناس وقت الإضراب أو ضد الإضراب ذاته باعتباره حركة شعبية وطنية من ضمن الحركات غير المرغوبة لاحتمال تطورها إلى عنف.

والسؤال الأهم هو: كيف لا يتكرر الحادث؟ وقد حدث أن قتل شرطى مواطنة وسط المدينة تضع باقة من الورد بجوار تمثال أحد الشهداء لثورة يناير 2011. وحتى لا يتكرر ذلك فى الأقسام فى إماتة المواطنين المقبوض عليهم. وآخرون ماتوا فى الإسكندرية من التعذيب للاعتراف بما لم يفعلوا. كيف تتغير طرق معاملة السيد والعبد، الإقطاعى والفلاح. وكلها من أشكال ممارسة السلطة، بالإضافة إلى اللباس الفخم الذى يتغير صيفا وشتاء وضرورة تلميع الزراير النحاسية الصفراء وإلا نال الجزاء. ومكتب مأمور القسم يصل إلى مستوى عال من الفخامة بحيث يصاب فيه الفلاح إذا دخله بالارتعاش وبضرورة الاعتراف بما فعل وبما لم يفعل. فى مقابل غرف أخرى أرضية لا يدخلها الهواء يوضع فيها المقبوض عليه جالسا على الأرض وأحيانا ينال من التعذيب إن لم يعترف بما أراد القسم أن يعترف به. يضاف إلى ذلك مظاهر اللباس التى يتغير لونها صيفا بالأبيض، وشتاء بالأسود. يضاف إليه «مراسلته» وهو الجندى «الرديف» الذى يعتنى به فى مأكله ومشربه ومسكنه ولباسه. وعربته على باب القسم فى مكان محجوز له لا يجرؤ أحد على احتلاله. هذا مكان الباشا. والمواطنون سواء. له امتيازاته، ونواديه، ومستشفياته. يسير مستقيم القامة، مرهوب الجناح، لا يستطيع أحد أن يقترب منه. هو «سى السيد» بين الرجال. يلعب دور الحاكم وممثله، والفلاح هو المحكوم. هو الله يفعل ما يريد فى العالم، هو الإمام فى الحى الشعبى أو يتبادل دور الإمامة مع الإمام الدينى. يفصل فى المنازعات دونما حاجة إلى قاض. تتمناه كل فتيات الحى منذ أن كان طالبا متميزا بلباسه عن أقرانه المدنيين فى الطب أو العلوم أو التجارة أو الحقوق أو الآداب الذين يتخرجون وينضمون إلى سلة العاطلين.

وحتى لا تتكرر المأساة، ضرب ضابط شرطة رأس محام بحذائه ليشج رأسه والاكتفاء باعتصام زملائه فى نقابة المحامين أو الاعتذار من قمة السلطة فى البلاد يكون السؤال: هل هناك جذور فى الثقافة الشعبية لهذه الثنائية بين الشرطى والفلاح؟ فى المجتمع الضرب هو وسيلة التعلم حتى ضرب النساء والأطفال كما يبدو ذلك فى الأفلام المصرية. فالأب هو الرئيس. فإن غاب فالأخ الأكبر. هناك رئيس ومرؤوس، آمر ومأمور، قائد ومطيع باسم الأخلاق. وفى المسجد الإمام له الكلمة الأولى وعلى جميع المصلين الطاعة باسم الدين. وفى المدرسة يمسك الناظر والمدرس بالعصى ليؤدب التلاميذ ويقيم تربيتهم على الخوف من السلطة وإلا استدعى الأب أو طرده من الوزارة. ويعامل الطالب زملاءه بل والمدرسين بنفس الطريقة. الضابط منذ كان طالبا فى الكلية داخلا إياها دون مجموع كبير وحتى تخرجه وأخذ الدرجة الأولى وهو مهاب فى الأحياء الشعبية، محاط بالاحترام والتقدير. له صورة إلهية. تتمناه كل فتاة كى تعاير به أقرانها. ينظمون مرور رؤسائهم. ويضبطون الطرقات إذا ما مر الضيف، الرئيس والسلطان. أما طريقة جر الفلاح إلى القسم فى العربة المصفحة وكأنه جر للحيوانات، مع بعض الضرب إذا ما حدثت مقاومة ودفع الفلاح دفعا إلى الداخل. وتتم المغالاة فى خدمة النظام. فهو ممثل النظام وخادمه، يعتقل خصومه دون مراعاة للمواطنة. يزداد أوسمة ونياشين كلما أحسن الخدمة حتى ليتساءل الناس كيف يحمل الصدر كل هذه الأوسمة، وكيف يحملها ويسير مستقيما؟ فإذا ما انتقل إلى رحمة الله تقام له جنازة عسكرية مهيبة.. عظمة فى الحياة، وعظمة فى الممات.

والسؤال هو: أين كل تراث المساواة بين البشر الموجود فى تراثنا ابتداء من الكتاب والسنة؟ لقد خلق الله البشر كيانا واحدا. «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوانا»، «كلكم لآدم وآدم من تراب». وما أكثر تراث المساواة الذى مارسه الخلفاء. ولما ضرب ابن عمرو بن العاص لأنه ابن الأكرمين أحد المسلمين طلب منه أن يضرب ابن الأكرمين. ما أكثر تراث المساواة فى تراثنا.

وللباشا ألقاب عديدة، الباشا أكثرها رواجا. فالبيه أقل من الباشا. وكل فلاح أقل من الباشا يدين له بالولاء. أما الفلاح فله ألقاب عديدة هى أقرب إلى البذاءات والشتائم مثل الفلاح بن الفلاح... وتتعدد هذه الشتائم طبقا لنوع البيئة الشعبية. وعرف الفلاح أن الأفضل له من دخول القسم تسوية أموره مع الضابط خارج القسم مثل الترضية الاقتصادية حتى وإن كانت ضئيلة. فعدة ترضيات على مدى اليوم أو الليلة تكفى للإقامة والتعايش طبقا لمبدأ «عيش وخللى غيرك يعيش». والأخطر من ذلك أن وعى الفلاح لا يتقدم. بل هو راض عما هو فيه. ويتكيف معه. ولا يثور مجموع الفلاحين بوعى جماعى من أجل تغيير الوضع. والباشا لا يتغير. فهو راض بهذا الوضع. يمتد من الطرفين، من الدولة بالترقيات والنياشين ومن جهة الفلاح عن طريق جموع الفلاحين أو الوعى الفلاحى بعد أن يصبح من رجال الأعمال، والتاريخ يسير ببطء انتظارا للخطة الثورية القادمة.

كيف يتغير هذا النموذج، الباشا والفلاح، إلى نموذج آخر، مجموع الفلاحين أو مجموع العمال أو مجموع المثقفين. فالفلاح صاحب الأرض. ومجموع الفلاحين هم الذين يمتلكون الأرض وليس الإقطاعى. ومجموع العمال هم أصحاب الإنتاج وليس رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال. ومجموع المثقفين هم الذين يشكلون الوعى الوطنى الذى يتجاوز الوعى الطبقى والمهنى. خطورة الوعى الطبقى المهنى، نموذج الباشا، أنه يصبح مرادفا للوعى الوطنى، نموذج الفلاح. إن التحدى الكبير هو ألا يرتعش الفلاح فى غرفة الباشا ولا يشعر أنه غريب فيها. وألا يرتعش فى غرفة الاعتقال تحت الأرض وأن يشعر بأنه برىء منها.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية