«بكَسر أجهزة التليفزيون والتكييفات والتليفونات القديمة لفرمها وإعدادها، لإنتاج ألعاب وعلب وشماعات وتليفزيونات مرة أخرى، والمادة الخام دى بتدخل فى منتجات كتير زى كوبايات العصير»، هكذا اعترف العامل، وهو يواصل مهمته بحماس أسفل هضبة المقطم المعروف بـ«حى الزبالين»، ليكشف لـ«المصرى اليوم» فى تحقيق استقصائى، كيف تتم إعادة إنتاج المخلفات الإلكترونية الخطرة، التى تحتوى على عنصرى «الرصاص والكادميوم» داخل مجتمع صناعى منغلق على نفسه لأنه ببساطة «مخالف للقانون».
عدسة «المصرى اليوم» رصدت عمليات جمع وفرز وتكسير وفرم الأجهزة الإلكترونية القديمة، مروراً بإعادة استخدامها فى تصنيع لعب الأطفال وأكواب العصير والشماعات، وبيعها فى أحد مصانع «بير السلم» داخل حى الزبالين نفسه، وبصعوبة أخذنا عينة من المواد المعاد تصنيعها وعرضناها على المعامل المركزية لوزارة الصحة، وبعد 9 أيام وكثير من المماطلة حصلنا على النتيجة التى جاءت «إيجابية»، لتؤكد احتواء العينة على مادتى «الرصاص والكادميوم»، وهما أحد أسباب الإصابة بفيروسى «سى وبى»، والتليف الكبدى والفشل الكلوى، وغياب التركيز عند الأطفال.. كما أكد لنا عدد من الخبراء وحسب نتائج دراسات طبية وبيئية حديثة.. إلى التفاصيل:
عملية التجميع والفرز والفرم والإنتاج
فى هذا التحقيق تكشف «المصرى اليوم» دائرة التصنيع والوصول بالمنتج النهائى قبل أن تلمسه يد المشترى فى مجتمع صناعى صغير منغلق على نفسه، يصدر منتجات سامة وخطرة سواء بجهل أو بتعمد، فى ظل غياب رقابى وحكومى، ومساعدات من جمعية مجتمع مدنى وحيدة تحارب انتشار الوباء فى الحى المسمى «الزبالين» أسفل جبل المقطم.
ورصدت عدسة «المصرى اليوم» عمليات جمع الأجهزة الإلكترونية القديمة والمستعملة وفرزها وتكسيرها وفرمها كمادة خام لصناعة مواد بلاستيكية ومنتجات كثيرة على حسب ماكينات مصانع من داخل «حى الزبالين» أيضاً.
واعترف العامل المسؤول عن عملية فرم الأجهزة الإلكترونية قائلاً: «بكسر أجهزة التليفزيون والتكييفات والتليفونات القديمة لفرمها وإعدادها لإنتاج ألعاب وعلب وشماعات وتليفزيونات مرة أخرى وغرف تفتيش بلاعات، والمادة الخام دى بتدخل فى منتجات كتير زى الكوبايات اللى بيتشرب فيها العصائر»، مضيفاً: «أنا آخر مرحلة بعد التجميع اللى بيتم عن طريقين، إما من تجار (روبابيكيا) بيجمعوا الأجهزة القديمة، أو من القمامة، بعد التكسير الذى تم عن طريق الماكينة الذى أعمل عليها، من 8 صباحاً حتى 6 مساء، أنا ومعايا 2، وبيروح للمصنع يتعمل منه منتجات كتيير، وبعدها بتنزل فى السوق لتباع مرة أخرى من غير أضرار صحية أو بيئية، إحنا بنوفر مادة خام بفلوس قليلة».
وبالحديث مع صاحب ماكينة فرم فى تسجيل مصور أيضاً قال: «بنجيب الأجهزة الإلكترونية القديمة ما بحرقهاش، بفرزها وأكسرها وبعدها أغسلها لفرمها، إحنا بنستفيد بالقمامة دى لإنتاج حاجات بفلوس قليلة بدل ما نجيب خامات بفلوس كتيير فى حاجات مش بنستعملها بشكل مباشر».
التواجد فى تلك الأماكن محل شك وريبة من الجميع، فلا يسمح لأحد غريب بالوقوف لمشاهدة أى من عمليات الفرز التى تتم بواسطة أطفال وصبية، بنات وأولاد، ماكينات تعمل من السادسة صباحاً حتى الثامنة مساء، الحيطة والحذر يسيطران على هذا المجتمع المنغلق، العيون جميعها تراقبك وتسأل «من أنت؟» الكل يعرف بعضه، لا يسمحون لغريب أن يسأل أو يستطلع.
فى ظل تلك الصعوبات استطاعت «المصرى اليوم» الوصول إلى أحد مصانع «بير السلم» فى حى الزبالين، بعد تسلمه فرم النفايات لوضعها فى مكابس لإنتاج شماعات رصدنا الشماعات، وتحدثنا مع صاحب المصنع «ك.ع»، الذى قال إنه يعمل بشكل مطمئن دون وجود أى نوع من الرقابة من وزارة الصناعة، وإنه يصنع الشماعات من نتاج فرم النفايات الإلكترونية، لرخص ثمنها لإنتاج منتج رخيص يباع فى أسواق العتبة والموسكى بشكل مباشر، فالتاجر يأتى عنده ليشترى دست الشماعات مباشرة، شاكياً ضيق الحال الذى يجبره أن يعمل فى تلك السوق لسنوات عديدة، متمنياً أن يعظم من ورشته ويكبرها، والعمل على ماكينة أكبر تنتج أعداداً أكبر من المنتجات فى وقت أسرع.
وقال صاحب المصنع: «يعمل لدىَّ من 3 إلى 4 أفراد من التاسعة صباحاً حتى غروب الشمس، يتولى أحدهم فرم القمامة ليضعها فى مكبس (اصطمبة) لإنتاج شماعات، فيما يعمل آخرون فى إنتاج لعب الأطفال، ويتعامل معى بشكل مباشر التجار الذين يبيعون تلك المنتجات على الأرصفة فى الموسكى والعتبة».
إيجابية عينة التحاليل
وفى ظل تكتم شديد على عمليات التجميع والفرم داخل الحى المنغلق، الصعب اختراقه، حصلنا على عينة من المادة الخاصة قبل ذهابها إلى ماكينات الإنتاج، لنذهب بها إلى معامل وزارة الصحة لتحليل تلك المواد بعد الفرم.
وتوجَّهنا من البوابة الرئيسية للمعامل المركزية التابعة لوزارة الصحة بهدف تحليل العينة والوقوف على مدة خطورتها من عدمه، ودخلنا من بوابة يقف عليها فردا أمن وجَّه أحدهما سؤالاً لمحررى الجريدة عن سبب الدخول، ثم سمح لهم بدخول المقر، وبدأت رحلة البحث عن المكان المخصص لفحص العينة الموجودة لدينا.
وأخبرنا أحد العاملين بأن الدكتورة المشرفة على هذه النوعية من التحاليل بالطابق الثانى، توجهنا إليها وعرفناها بأنفسنا وأكدنا لها أننا نجرى تحقيقاً حول الضرر الذى يقع على المواطنين من استخدام المواد البلاستيكية مثل لعب الأطفال والأكياس والشماعات، رحبت بالفكرة ولكنها لفتت إلى أن هذه العينات لا يمكن تحليلها بالمعامل، حيث إنها لا تخضع للقانون، وأجرت اتصالاً هاتفياً بالدكتور حسام عبدالغفار، المتحدث باسم وزارة الصحة، الذى طلب منها أن ترسل العينة للمعامل، وأنها تخضع للقانون رقم 73.
بعد أسبوع من الانتظار حضرنا للحصول على نتيجة العينة بعد عدد من المماطلات من جانب الموظفين المسؤولين عن النتيجة، ما جعلنا ننتظر أكثر من يومين آخرين، إلى أن ظهرت النتيجة بالإيجاب، وأثبتت أن فرم النفايات الإلكترونية يحتوى على مادتى «الرصاص والكادميوم»، وهما من المواد التى تتسبب فى عدد من الأمراض، مثل فيروسى «سى وبى»، والتليف الكبدى، والفشل الكلوى، وأمراض الجهاز التنفسى، وأمراض أخرى مثل فقدان التركيز عند الأطفال.
بالرجوع لعدد من الدراسات العلمية والطبية وجدنا أن الكادميوم والرصاص يتسببان فى تلويث التربة والماء، ويقضيان على حياة الإنسان بشكل تدريجى، وتدخل هاتان المادتان فى عدة صناعات، مثل البلاستيك والبطاريات.. للمزيد.
الدكتورة سميرة أبوسيف، مسؤولة المشروعات الصحية بجمعية حماية البيئة من التلوث فى حى منشأة ناصر تحكى مسيرتها فى العمل التطوعى لمدة تزيد على 20 عامًا، ولسنوات عديدة فى المنطقة المحيطة بأسفل جبل المقطم، حيث أكدت أنه لم يكن هناك تخطيط يذكر لتلك المنطقة العشوائية المنغلقة على نفسها لا بالنسبة لعدد السكان أو الاهتمام بشؤونهم أو معرفة ما تخفى تلك المنطقة من تحديات وعقبات فى طريق التنمية.. للمزيد.
بحسب تقرير صادر عن مصنع «إنترناشونال تكنولوجى جروب»، المتخصص فى تدوير المخلّفات الإلكترونية، فى بداية 2015، فإنه يتم إنتاج 50 مليون طن سنويًا مخلفات إلكترونية، عالميًا، فيما تنتج السوق المحلية نحو 50 ألف طن سنويا، يتم التخلص منها بطرق بدائية.. للمزيد