الكتاب الذى صدر هذا العام للأستاذ الدكتور جلال أمين، رحلة إنسانية طويلة يسميها المؤلف «حكايات على هامش السيرة الذاتية»، يجمع فيه صوراً حقيقية لناس عرفهم فى رحلة حياته الطويلة «مد الله فى عمره» فى الداخل والخارج، أصدقاء، ومعارف، بشر، أحبهم، وبشر لم. حقائق صادمة فى التاريخ، وفى المجتمع، وفى الاقتصاد: العلم الذى تخصص فيه، وقام بتدريسه فى الجامعات المصرية والأجنبية.
ينضم الكتاب إلى سلسلة طويلة من الكتب التى درس فيها الكاتب المفكر «ماذا حدث للمصريين؟»، درّس فيها تجاربه الشخصية بدرجة عالية من التبصر والتجرد والمعرفة والأمانة، ومع ذلك تجده يقول فى المقدمة:
«لدىّ اعتقاد قوى، بأننا نقضى حياتنا ونكتب الكتب دون أن نقول إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة».
نحن لا نتعمد إخفاء شىء، ولكن الناس «ألغاز بشرية» لا أحد يعرف كيف تجتمع فى الإنسان الواحد كل هذه الصفات المتعارضة والمتناقضة، وعندما تتأمل وقائع حياة شخص، تجد بقليل من التأمل أن أحداث حياته كانت حتمية الحدوث، تحكمها ظروف اجتماعية واقتصادية وجينية وراثية، ويستشهد الدكتور بمقتطف كاشف للكاتب الروسى «ألكسندر مسولجنستين» يقول:
«ياليت الأمور بهذه البساطة، ياليت الأشرار من الناس يرتكبون أعمالهم الشريرة فى مكان منعزل بحيث يمكننا منعهم من الاتصال بنا، ثم نقوم بالقضاء عليهم، ولكن الأمور ليست كذلك، بل إن الخط الذى يفصل بين الخير والشر يمر داخل قلب كل كائن بشرى، ومن الذى يقبل أن يتخلص من جزء من قلبه».
ويختم الدكتور مقدمة كتابه بقوله: «إنى أجد على كل حال أن هذه العبارة (مكتوب على الجبين)».
والجزء المكمل لها من المثل الشعبى الشهير (لازم تشوفه العين) جمالاً لا يمكن أن يخفى عن القارئ»، هل حقاً كتب مصير كل منا على جبينه - رغم أن من المستحيل لصاحبه أن يقرأه؟ «إذا من الذى يستطيع أن يقرأ شيئاً مكتوباً على جبينه»، وهل حقاً لابد أن يتحقق هذا المكتوب آجلاً أو عاجلاً، فتراه العين التى ظلت دائماً عاجزة عن قراءته، فإذا بها تراه يتحقق أمامها فى الحياة الواقعية.
■ ■
بهذه الطريقة يكتب الدكتور كتابه الجديد الجميل جامعاً بين النظرة العلمية والواقعية والخيال الفنى، هناك عدد من لوحات الكتاب هى مشاريع قصص فنية تكاد أن تكون مكتملة، قصة «حمامة» الخادم العجوز وقصة «مجدى وميمى» الزوج والزوجة فى رحلة حياة فارغة من الأولاد مليئة بالوحدة المؤلمة، وفصل «يد فى الماء وأخرى فى النار» الذى يرسم صورة مبهرة لجو المثقفين فى السنوات الأخيرة، ونوع الأخلاق و«حروب الصراصير» الصغيرة التى تنشب بينهم، كذلك الصورة البشعة لذلك الماركسى التائب وصورة نقيضه سمير أمين بعنوان ماركسى لا يتوب.
الكاتب يتجنب ذكر الأسماء وإن كانت تبدو واضحة للقريبين من الحياة الثقافية المزعجة التى نعيش فيها منذ عقود.
الكتاب مقسم إلى فصول خمسة، الأمر الذى يجعله يتخلص من عيوب الكتب التى تجمع المقالات، فهذا التقسيم أعطى منطقاً وسياقاً يؤدى فى النهاية إلى صورة واحدة مقنعة بحيث ينضم الكتاب إلى سابقيه.. «ماذا علمتنى الحياة» و«رحيق العمر».
فى الكتاب قطع بالغة الأهمية يكون الكاتب فيها فى قمة تألقه مثل قطعة «الفيدو الصغير»، قدم فيها الدكتور جلال تحليلاً اجتماعياً وفنياً واقتصادياً لواقعة حرب صدام لاحتلال الكويت، مقال أو مشروع رواية لا يكتبه إلا عالم اقتصاد فنان يتوق للكتابة الإبداعية الجديدة، وقد تحققت هذه الرغبة فى هذه القطعة عظيمة الدلالة، ساخرة التناول، بحيث يختلط الحلم بالحقائق الاقتصادية، ويتحرك خيال الكاتب والقارئ معه من حقائق الاقتصاد السياسى إلى وقائع الحياة الإنسانية فى صورها البسيطة الحميمة فى حرية وسلاسة.
تصوير دخولنا إلى العصر الأمريكى أيضاً: واحد من خيوط الكتاب الأساسية التى تبدأ من شراء بيت أسرة الأستاذ الجليل أحمد أمين الثلاجة الكهربائية سنة 1947 عندما انتقلت الأسرة إلى الدقى وما صاحب هذا الحدث وأحاط به من إزاحة المشروب المصرى القديم «الإسباتس» ودخول حرب المشروبات الغازية الأمريكية «الحلال»، و«التى هى الأصل» لكى تنضم هذه الحرب إلى حرب جهاز الفيديو الذى ذهب بعقل العالم، هذه الحروب التى استمرت حتى الآن ولا أحد يدرى متى تنتهى، ولا مدى الدمار الذى تحدثه فى عقل البشر واقتصادهم وحياتهم، لكى يقدم لنا الدكتور جلال أمين فقرة عظيمة الدلالة والوضوح قرب نهاية الكتاب يقول:
«كثير جداً مما تحققه هذه الحضارة فى الكم يقابله تدهور فى الكيف، السلع تصل إلى أعداد من الناس لم تكن تصل إليهم، ولكنها أصبحت أقل جدوى وأتفه شأناً وأقصر عمراً، الخدمات تصبح أكثر فأكثر فى متناول أيدى الناس، ولكن درجة الاتصال الإنسانى فيها تضعف أكثر فأكثر، الصحف يصل توزيعها إلى عدة ملايين بدلاً من الآلاف، ولكنها تعتمد الآن على الإثارة بأخبار الجرائم والفضائح، برامج التليفزيون تستمر 24 ساعة فى اليوم، ولكن البرامج الجادة تختفى لتحل محلها برامج يتطلب فهمها درجة أقل من الذكاء ومن رهافة الحس، الزعماء والسياسيون يصبحون أكثر شهرة، ولكنهم يستخدمون أساليب أكثر تضليلاً، كل شىء يصبح أكثر ديمقراطية من ذى قبل ولكن الديمقراطية نفسها تتحول أكثر فأكثر إلى أكذوبة.
الديمقراطية المزيفة نتاج العصر الأمريكى واحد من الألحان الأساسية التى يتكون منها هذا الكتاب هناك «أقاربى الإنجليز» وأنتِ ضد جميع الذكور، والمشاعر والعالم: قطع تناقش وضع المرأة هنا وفى الغرب، ويقدم الكاتب رؤية صحيحة وإنسانية لمكانة المرأة فى حياته من الأخت إلى الزوجة إلى التلميذات والأصدقاء».
■ ■ ■
طوال الوقت وأنا أقرأ هذا الكتاب لم أستطع أن أمنع نفسى من تذكر أننى أقرأ لابن «أحمد أمين» أحد الأقلام التى صنعت ما أملكه من معرفة وقيم.. لم تكن كتب الأستاذ أحمد أمين مجرد كتب عبرت حياتى فى أول الشباب، بل كانت مدرسة تعلمت فيها كيف أكتب وكيف أفكر وكيف أحترم الكلمة والتاريخ والمعرفة والدين.
يبقى شىء آخر جعلنى أعاود فحص مقالات الكتاب: هو ذلك الشعور الحزين الذى يسرى فى عدد من مقالات الكتاب بافتقاد الكاتب العبقرى حسين أحمد أمين، صاحب يوميات المسلم الحزين، لقد أسعدنى زمانى بالاقتراب من هذا الإنسان فى لقاءات متعددة فى دار روزاليوسف وكان شخصاً مبهر الذكاء والحساسية والخلق، ساعات قليلة أمضيتها معه لا أنساها، وقد ذكرنى الدكتور جلال بحضوره وروحه التى لا تنسى، فى وصفه للقاء الوالد وهو فى سرير المرض معصوب العينين، عندما جاء طه حسين لزيارته رغم ما كان قد نشب بينهما من خلاف، وتقدم الشاب حسين لكى يجمع كفى الرجلين الممدودتين كل ناحية الآخر! كذلك ختم الدكتور جلال كتابه بخطاب أدبى شفاف أرسله له شقيقه حسين عن رحيل الوالدة.. رحم الله الجميع.
عالم اقتصاد واجتماع يرى العالم شرقه وغربه بعيون كاتب فنان مصرى وإنسان.
مكتوب على الجبين، جلال أمين، الكرمة للنشر 2015