أعود مرة أخرى لسؤال كنت قد طرحته فى هذا المكان منذ أسبوعين حول ما إذا كان ما يجرى فى اليونان، ومعه، يمثل هزيمة لليونان أم للاتحاد الأوروبى. ولكننى أعود هذه المرة من البوابة الفرنسية والألمانية وربما الفنلندية أيضا! فغضب المزارعين الفرنسيين وحدود قدرة الحكومة الفرنسية على التعامل مع الموقف أعاد فتح الملف. فقد استخدم المزارعون الفرنسيون الجرارات لمنع دخول المنتجات الزراعية والحيوانية القادمة من أنحاء أوروبا عبر الطرق البرية التى تربط فرنسا بألمانيا وإسبانيا، وأجبروا مئات المقطورات التى تحمل البضائع على العودة من حيث أتت. وقد جاء ذلك الحصار ضمن فعاليات أسبوع كامل، احتجاجا على انخفاض أسعار تلك المنتجات داخل فرنسا، بما جعل قطاعات واسعة من المزارعين على شفا الإفلاس. فمنافسة المنتجات الأجنبية، فضلا عن إغلاق روسيا لأسواقها فى وجه المنتجات الأوروبية بسبب الأزمة الأوكرانية، وانخفاض الصادرات إلى الصين، فضلا عن انخفاض الطلب داخل فرنسا نفسها أدى لانخفاض شديد فى الأسعار خصوصا بالنسبة للحوم والألبان.
وتشير استطلاعات الرأى إلى أن 88% من الفرنسيين يؤيدون احتجاجات المزارعين التى يقودها اتحاد المزارعين، الذى هو إحدى أهم جماعات اللوبى فى فرنسا. لذلك، ورغم أنها وفق قواعد الاتحاد الأوروبى لا تملك تقديم مساعدات مالية مباشرة لمزارعيها، تحركت الحكومة الفرنسية لتقديم الدعم، فأعلنت برنامجا لتقديم تسهيلات قروض وتأجيل جباية الضرائب. وهى تنوى فى اجتماع وزراء زراعة الاتحاد الأوروبى أن تطالب بالسماح بالتدخل الحكومى لتحديد أسعار المنتجات الحيوانية. ويرى اقتصاديون أن الأوضاع الاقتصادية داخل فرنسا نفسها سبب رئيسى وراء دعمها للإبقاء على اليونان داخل الاتحاد الأوروبى على خلاف الموقف الألمانى، الذى تبين أنه كان يستعد لتعطيل عضوية اليونان فى الاتحاد ولو مؤقتا. فنسبة البطالة فى فرنسا تصل إلى 10%، مع ثبات معدل النمو وأزمة مالية تلوح فى الأفق. حتى فنلندا، التى تقاسمت مع ألمانيا الموقف الأكثر تشددا ضد اليونان، تعانى هى الأخرى من أزمة اقتصادية تلوح فى الأفق مع ارتفاع معدل البطالة الذى وصل إلى 15%. أما ألمانيا نفسها، صاحبة الاقتصاد الأقوى، فإن الضغوط الشديدة لسياسات التقشف التى فرضتها على اليونان من خلال الاتحاد الأوروبى، أدت لموجة هجرة يونانية واسعة كانت وجهة أغلبيتها لألمانيا.
ومن واقع تلك التطورات فى مختلف دول القارة، يبدو لى جوهر الأزمة ينبع من طبيعة الاتحاد الأوروبى نفسه لأنه قام فى جوهره على فكرة معادية لسيادة الدولة. فقواعد الاتحاد تحرم الحكومات المنتخبة، فى دوله التى تواجه أزمات اقتصادية، من اتخاذ القرارات الاقتصادية التى تراها فى مصلحة شعوبها، مما يجعلها تحت رحمة إملاءات الدول ذات الاقتصادات القوية بالاتحاد. وليس صحيحا أن ذلك ينطبق على الدول الأصغر وحدها، والحالة الفرنسية خير دليل. المفارقة أنه صار واضحا أن إسقاط حكومات اليمين وانتخاب أحزاب اليسار، كما هو حادث فى اليونان بل فرنسا، لم يعد يعطى الناخب ما يريده. فقد اضطرت حكومة تسيبراس لقبول برنامج التقشف للحصول على القروض، مثلما قام الرئيس «الاشتراكى» فى فرنسا بتمرير خطة «يمينية» فى فبراير الماضى، التمس من حزبه عدم معارضتها، وذلك قبل أسبوع واحد من اجتماع للاتحاد الأوروبى كان مقررا أن يناقش إمكانية معاقبة باريس لعدم وفائها بالتزاماتها بشأن تخفيض عجز الموازنة. السؤال إذن، هل صار الاتحاد الأوروبى فى مواجهة مع شعوب القارة؟!