من الصور الطريفة التى نشرتها صحف العالم، مؤخراً، صورة لأطفال يمارسون لعبة التنس فى ملعب محدود المساحة.. ولم يكن فى الصورة جديد، لا من حيث الأطفال الذين كانوا يلعبون فى مرح ظاهر، ولا من حيث اللعبة ذاتها طبعاً، ولا حتى من حيث مساحة الملعب المحدودة.. وإنما كان الجديد فعلاً أن الملعب أقيم على الحدود بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، فكان نصفه بالضبط فى أمريكا، ونصفه الآخر داخل الأرض المكسيكية!
تذكرت الصورة حين التقيت الوزير هشام زعزوع بالصدفة، وكان فى يده كتاب يقرؤه لمؤلفين اثنين أمريكيين، وكان عنوانه: لماذا تسقط الأمم؟!
كان الوزير زعزوع، كما سمعت منه، قد بلغ نصف الكتاب، وكان المؤلفان قد احتفظا بالسبب الفاصل فى حياة الأمم، نجاحاً وفشلاً، إلى آخر صفحة فيه، وكان قد راحا يستعرضان مختلف الأسباب التى يمكن أن تطوف فى ذهنك لنجاح هذه الأمة، أو إخفاق تلك، وفى كل مرة كان السبب الذى يمكن أن تتخيله لنجاح أمة من الأمم وعدم نجاح غيرها، لا يصمد أمام مناقشتهما، فكانا يستبعدانه فى الحال!
ولأنهما احتفظا بالسبب الحقيقى إلى آخر صفحة، فإن وزير السياحة السابق قد راح من جانبه يقفز فوق الصفحات، من طول التشويق الذى كان المؤلفان يمارسانه عليه، كقارئ!
يتبين لنا من الكتاب أنه ليس صحيحاً أن دول الشمال متقدمة، بينما دول الجنوب على عكسها، فهذه نظرية قد ثبت فشلها بنماذج محددة بين الدول، ثم يتبين لنا أيضاً أنه ليس صحيحاً أن دول المناخ المعتدل ناجحة، وأن دول الطقس الحار فاشلة، فهذه بدورها نظرية ليست صحيحة، ثم يتبين لنا كذلك أنه ليس صحيحاً أن الدول التى يسكنها المواطن الأبيض متطورة، على طول الخط، أو أن الدول التى يسكنها المواطن الأسود لا تعرف النجاح.. فهذه للمرة الثالثة نظرية يقول الواقع، عند استعراض تجارب شتى الدول فى العالم، إنها غير صحيحة.. وهكذا وهكذا!
ما هو السر إذن؟!.. السر كان على طريقة ملعب التنس الأمريكى المكسيكى، فالمؤلفان قد ذهبا إلى مدينة يقع نصفها، كالملعب إياه تماماً، فى الأرض الأمريكية، ويقع نصفها الآخر فى أرض المكسيك.
ومن هناك تبين لهما، بالدراسة، وبالملاحظة العابرة، وبكل شىء، أن النصف الأول متطور للغاية، وأن النصف الثانى على العكس منه إلى حد كبير!
وكان السبب الحقيقى أن فى النصف الأول مؤسسات تحكمه، لا أفراد، وأن النصف الثانى على النقيض.. ثم كان الدرس الأهم فى هذا الكتاب المهم، أن هذا بالضبط هو الشىء الحاكم فى حياة الأمم، وأن الأمة التى تحكمها مؤسسات تنجح، لأنه لا وجود عند دولة المؤسسات إلا للموضوعية كقيمة بين أفرادها، ولأنه لا وجود فى دولة يحكمها الشخص، لا المؤسسة، إلا للهوى والمزاج، وكلاهما لا يبنى دولة، ولا يقيم أمة.. فلننتبه جيداً إلى هذا الدرس الباقى، ونحن نؤسس لبلد قامت فيه ثورتان فى أقل من ثلاث سنوات.