رأفت الميهي كان يجلس تحت سرير أمه، قلبه مرهون بروحها المُعلّقة، التي لا تذهب ولا تبقى، وهو.. لا يشفى من الأمل في حدوثِ معجزة.
وقتها، فكر في حكاية طبيب يجلس بجانب والدته بانتظارِ موت لا يجئ، وفي أناس يتبركون على أعتابِ الأولياء حين يفقدون السبيل، وفي استنجاد بالغَيب من أجل العونِ على الظاهر والمكشوف.
وحين ماتت الأم، أصبح لدى «الميهي» فيلم أسماه «للحب قصة أخيرة»، شريط سينمائي طويل في رثاءِ المحبوبين الذين لم نستطع استبقاءهم جانبنا.
في الفيلم، هناك أم ترغب من زوجة ابنها منحه طفلاً كي يبقى نسله في الدنيا، وحبيبة لا ترغب في نسلِ زوجها لأنها تريد زوجها نفسه، وابن/حبيب لا يحاول التفكير في الموت المُنتظر كي (يعيش) الحياة الباقية له.
وفي الفيلم، هناك أم أخرى تخفي عن زوجها أن الابن الغائب الذي ينتظره على معديَّة جزيرة الوراق كل ليلة قد وَجدت صورته في الجرنان «قتيلاً». والأب يُخفي عن زوجته أن الابن الغائب كان «القاتل» وليس «المقتول» وهو ينتظره على المعديَّة لأن 15 عاماً من الغيابِ لابُد وأنها أنسته الطريق إلى البيت. الأم تداري عنه «موت» الابن كي لا يموت مقهوراً، والأب يداري عنها «حياته» كي لا تعيش بأملٍ مؤلم كل ليلة في أنه حتماً ولابُد سيعود الليلة.
وفي الفيلم، هناك شيخ يذهب إليه الحزانى قلوبهم من أجل أن يجدوا فيه رفقة وعون، ونساءٌ صامتات ملأن الطرقة التي تؤدي إليه بحناجر لا تعرف إلا الصراخ أو التوسُّل، وموت يأخذ الصغار ويترك الكبار بأجسادٍ مثقلة بالسنين، وهناك حب.. الكثير من الحب الموصول من جسدِ رأفت الجالس بجوار جسد أمه إلى شريط فيلمه الذي أخرج فيه الحزن كله.
قطع عنيف من الموت إلى اللعب:
على الأغلب أن «الميهي»قد أرهقه كل هذ الثقل الذي امتلأ به «للحب قصة أخيرة»، كان لحظة فاصلة في حياته، لم يُخْرِج أو يَكتب بعدها إلا أفلاماً هزلية، لا تأخذ الواقع بجدية.
ودائماً ما تساءلت عن السبب الذي يجعلنا حين نتحدث عن موجة الثمانينيات التي غيّرت السينما في مصر نذكر أسامي محفوظة: «خان» «عاطف» «خيري» وربما «داوود».. دون أن نذكر رأفت الميهي؟
أحد الإجابات المحتملة أن العيون قاصرة وأن «الواقعية» هيالشكل الوحيد الذي نعرفه عند تقييمنا لتاريخنا السينمائي في مصر، ولذلك حين انقلب «الميهي» وصنع أفلاماً كوميدية وفانتازية لم يستطع «النقد» في مصر ربطها بمشروع جماعي أو بموجة، وبالتالي سقط اسم صاحبها رغم موهبته الاستثنائية وأثره العظيم.
ولكن هناك إجابة أخرى مهمة بنفس القدر، في أن تلك كانت خيارات «الميهي»، وأنه كان «راضياً» عنها، في فيلم «الأفوكاتو» يقول حسن عبدالرحيم (الشهير بحسن سبانخ زعيم الحياة الطبيعية، وهو أكثر شخصيات «الميهي» شبهاً منه) أنه «يلعب» وحين تستنكر زوجته «بلاش هزار» يرد «ماله الهزار، الحياة يبقى شكلها إيه من غير هزار؟» «شوفي يا عطية.. عمرنا ما هنخلص وعمرنا ما هيبقى لنا فلوس، هفضل أطلع من لعبة أخش في لعبة لغاية ما أموت».
هل يقارب ذلك من رد «الميهي» على سؤال صديقه المخرج «مجدي أحمد علي» في منتصف التسعينيات: «إيه يا رأفت.. انتَ كل ما ييجي في بالك فكرة تقوم داخل تعملها فيلم؟».. فيرد «طبعاً، هو فيه أحسن من إنك تلعب وكل ما تعوز حاجة تعملها؟ انتَ مبتتمناش كده؟».. هل هناك من لا يتمنى؟
لم يرغب «الميهي» في صُنع أفلاماً عظيمة، وإن أخرج ثلاثة من أكثر أفلامنا عظمة، بقدر ما أراد أن يعيش ويَلعب ويعيش من جديد، لأن العالم شديد القسوةوالواقع لا يُحْتَمَل، «الحياة مُقرفة يا عبدالجبار، ولو رفضتها لإنها مقرفة هتبقى مقرفة أكتر».. و«الحل بسيط.. إنك تعامل الحياة بقوانينها عشان تتمتع بجمالها» كما يقول «حسن سبانخ».