x

جمال الجمل هوس التحولات (الخرتيت -3) جمال الجمل الخميس 30-07-2015 05:10


كان موهوبا، وكان زملاؤه يعرفون ذلك، لكنهم بعد التخرج صاروا نجوما كبارا، وظل هو مغمورا فقيرا، مع ذلك لم يتنازل أبدا عن كبريائه بينهم.. كان يردد دوما أن هناك «وزن نفسي» لكل شخص يحدد مكانته بشكل خفي بين الناس.

ذات ليلة كان يسهر معهم في إحدى الحانات، وفي هذه الليلة سقطت حسابات الصداقة القديمة في في قيعان الكؤوس، فتطاولوا عليه، وتعمدوا إهانته والسخرية من حاله البائس، فانتفض واقفا بطريقته المعتدة، وقال لهم على الملأ: هل تعرفون حقيقةً من أنتم؟.. هل تظنون أنفسكم نجوما فعلا؟.. إنكم مجرد مسوخ لافرق بينكم وبين أي جاهل إلا البدلة و«الجزمة المتلمعة».

بعد سنوات طويلة على هذا الموقف سألته عن شعوره في تلك الليلة، فقال لي: شعور المحاصر في كابوس ملئ بالمسوخ، فهؤلاء الأصدقاء كانوا بالنسبة لي «مجرد البداية»، وقد رأيت بعدهم الملايين تتحول بنفس الطريقة!.

هذه قصة واقعية من سبعينيات القرن الماضي، لكن الموضوع نفسه يتكرر في عصور كثيرة، ففي الثلاثينيات لما تفشت النازية والاتجاهات الفاشية في أوروبا، شعر كثير من المثقفين بمخاطر تحول المجتمع إلى حالة وبائية، لأن تلك الأفكار انتشرت في شكل هوس جماهيري اكتسح في طريقه كل شئ، ليغرس مكانه التعصب، والشوفينية، واضهاد الاقليات، والتباهي بالقوة والعنف.

كان يوجين يونسكو يعيش في رومانيا، وخشي على نفسه أن يصبح واحدا من هؤلاء المهوسين، وشعر أن «الوباء» أقوى من مقاومته، فقد خاض صراعات مع أساتذته وأصدقائه من المثقفين، والإعلاميين ومن الناس العاديين أيضا، حتى اضطر أخيرا للهجرة إلى فرنسا، لكن فكرة «الوباء» الذي يسلخ الفرد من إنسانيته ظلت شبحا يطارده، فقد عثروا على قصاصة بين أوراقه سجل فيها خلال الأربعينات ملحوظة يقول فيها: «الجميع من حولي خراتيت، السياسيون ورجال الشرطة والقضاة والأطباء والباعة، وكلهم يستنكرون أن يحكم البشر هذا العالم، مع أنني أرى أن البشر لم يتمنكوا من حكم العالم في يوم ما»!

في منتصف الخمسينات قرر يونسكو أن يتخلص من شبح الخوف الذي يسكنه، بعد أن نصحته الممثلة والكاتبة الفرنسية الطليعية جينيفيف سيرو بأن أفضل طريقة للتخلص من الخوف هي الكتابة عنه، فكتب قصة قصيرة نشرها في خريف عام 1957، وفي الخريف التالي أعاد صياغة القصة في مسرحية عبثية، وعندما عُرضت لأول مرة في دوسلدورف نوفمبر 1959 حققت دويا هائلا بين الجمهور والنقاد معا.

قبل الكتابة وأثناءها وبعدها كان «بيرانجيه» يعيش داخل يونسكو، وكان بوهيميا نقيا صاحب كبرياء مثل الصديق الموهوب الذي بدأت المقال بقصته، أي أن «بيرانجيه» لم يكن بطلا بالمقاييس المتعارف عليها للبطل الفني التقليدي، فهو موظف صغير مهمل الثياب، لا يهتم بهندامه ولا يصفف شعره، ولا يسعى للتأنق كبقية زملائه الموظفين، وخاصة «جان».

لا أعرف كيف أحكي المسرحية، لأن يونسكو نفسه عندما صاغ النص عام 1958 نظم مسرح «فيو كولومبييه» أمسية ليقرأ فيها المؤلف مسرحيته، لكن يونسكو قال لجمهور الأمسية ليلتها: المسرحية تُكتب لتُمثّل لا لتُقرأ. ولو كنت مكانكم لانصرفت فورا، لكن الجمهور ضحك ولم ينصرف واختار يونسكو أن يقرأ الفصل الثالث، أما أنا فيرعبني دائما الحوار المذهل بين «بيرانجيه» وصديقه «جان» في الفصل الأول، ويقتلني حوار بيرانجيه مع حبيبته ديزي في الفصل الثالث.

غدا نشهد انطلاق الوباء، ونعرض لحوار الرعب، بين «بيرانيجه» و«جان»، وحتى يأتي ذلك الغد أرجو ألا تتوقف عن النظر في المرآة!

جمال الجمل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية