أتأمل صورته وهو يصعد درج المستشفى القديم وحيدا، انحناءة ظهره لا تثير بداخلي مشاعر شفقة، بقدر ما تشدني نحو إعجاب غامض بدأب وعناد ذلك الشيخ الطيب.
في أول الأمر لم أكن أحبه، ولم أكن أكرهه، فأنا لا أعرفه إلا من خلال الصور التي تكررت، مرة أمام أحد أقسام الشرطة، ومرة في الشارع، ومرات في مصالح ومؤسسات حكومية مختلفة.
كل الحكاية أن الأداء الحركي للرجل لفت نظري بشدة، ولمست فيه نوعا من الإخلاص، والرغبة في المساعدة، ومشاركة الناس مشاكلهم وظروف حياتهم.
ماذا لو كان لدينا مسؤول بهذه الهمة وهذا النشاط؟
لا شك أن الأحوال المتردية ستتحسن كثيرا، ستختفي القمامة من الشوارع، ويعود الانضباط للشارع، وينتهى الإهمال الحكومي، وتنتظم الخدمات العامة في كل القطاعات.
لماذا إذن لا يحدث هذا التحسن، طالما أن الشخص الذي اتحدث عنه هو رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب؟
السؤال لم يقلل من إعجابي المتأخر بظاهرة رئيس الوزراء الذي يعيد لنا بصورة عصرية قصة الحاكم الذي يتخفى لينزل إلى الأسواق ويتعرف على حياة الناس ويستمع إلى مشاكلهم بدون وسيط، لكن.. ماذا بعد تقليد «الحدوتة»؟
ذات مرة كنت أتابع الاستوديو التحليلي لإحدى المباريات المهمة، وكان الكابتن عبدالعزيز عبدالشافي (زيزو) بين المتحدثين، وفي هذا الموسم كان النادي الأهلي قد ضم ظهيرا جديدا اعتبره معظم النقاد ظاهرة فذة، واهتمت به الجماهير ووسائل الإعلام بشكل عجيب، وحدث أن الأهلي خرج مع نهاية الشوط الأول مهزوما بهدف، وحمل النقاد على الفريق بالكامل ماعدا ذلك الظهير الظاهرة، لكن زيزو انتقد اللاعب بأسلوبه الهادئ، ما أثار المذيع والضيوف، وبدأو في الرد على زيزو والدفاع عن اللاعب، وتحول الخلاف إلى قضية طلب المذيع العودة إليها بعد الشوط الثاني، ويبدو أن زيزو طلب من المخرج تجهيز بعض اللقطات ليشرح وجهة نظره، ولما انتهت المباراة وتجددت المناقشة رد زيزو على حماس المتشيعين للاعب الظاهرة بطريقة لطيفة جدا، فقد أكد على معظم كلامهم: فعلا اللاعب سريع جدا، ومجهوده كبير في الملعب، وقد نفذ في الشوط الأول 12 انطلاقة بمفرده، وكان يرتد بعدها بسرعة لمكانه في الدفاع، وفي الشوط الثاني نفذ 11 إنطلاقة، وعرقل لاعبا عند منتصف الملعب بشكل تكتيكي جيد ليمنع انفرادا خطرا في إحدى الهجمات المرتدة، ولكن: ماهو المردود الفعلي لكل هذا المجهود، لقد أهدر اللاعب مجهوده ومجهود الفرقة، لأن المنتج السليم الذي قدمه لا يزيد عن 10%، فقد نجح اللاعب في تمريرتين فقط داخل منطقة الجزاء من بين «23 كروس»، ما يعني أنه أهدر 90% من جهده وبالتالي من فرص ووقت ومجهود الفريق.
طلب زيزو من المخرج عرض المشاهد المتفق عليها، كان اللاعب فعلا مفرط النشاط والسرعة ويتحرك في كل مكان، لكن تمريراته كانت تعبر فوق منطقة الجزاء إلى الجهة الأخرى من الملعب، أو تعلو العارضة وتخرج من الملعب، أو تصطدم بأقدام أقرب لاعب له.
كنت أتابع المباراة في البداية لمجرد راحة الدماغ من هموم السياسة وسعيا لكسر الملل، فإذا بي أتعلم درسا عظيما، تعرفت عليه بعد ذلك بشكل أوسع في النظريات الحديثة لعلم الاجتماع، أن الحركة مهمة، لكنها تفقد قيمتها إذا لم تشكل اتجاها، ولم تؤد إلى منتج يساهم في تكريس هذا الاتجاه، ماعدا ذلك يذكرني بما كتبه يوجين يونسكو في مسرحية «الخرتيت» عن مجتمع ممزق يعاني من «الخبل» مثل مجتمعنا، وإذا بالناس تتحول رويدا رويدا إلى خراتيت تتحرك بعنف في كل اتجاه بلا هدف ولا عقل.
وغدا أحكي لكم المزيد عن خراتيت يونسكو.
جمال الجمل