x

جمال الجمل عن الخيبة في مدن الملح جمال الجمل الخميس 23-07-2015 06:20


1- استهلال:

«كنت أحار في تفسير أي الرجال أكون (...) تختلط الأمور في رأسي لدرجة لا أعرف عندها ماذا أريد أو ماذا أقول.

كنت أريد أن أتحدث عن أيام طفولتي، عن أيام قديمة، ليس لأن في هذه الطفولة أو تلك الأيام شيئاً خارقاً يستحق أن يُروى، وإنما لأن وضوحها الحاد، والوقائع الكثيرة التي حصلت خلالها، جعلتها تبدو لي عملاً روائياً كاملاً».

(من رواية «عالم بلا خرائط» درة منيف وجبرا إبراهيم)

2- توضيح:

ليس للمقال علاقة بذكرى ثورة يوليو، ولا بهجوم «أمراء مدن الملح» على الأستاذ هيكل، ولا بزمن مضى، ولا بعبدالرحمن منيف نفسه.. المقال عنك وعني، وعن الزمن الذي نعيشه.

3- الرواية:

كان ينفض غليونه بهدوء وهو يجلس وحيدًا في قاعة مزدحمة بالفندق الكبير على نيل القاهرة، بدا لي عبدالرحمن منيف أكثر انسيابية وهو يحني ظهره على شكل قوس نحو المائدة، وينظف الغليون بحركات محسوبة غير عابئ بمن حوله.

لم يكن كذلك قبل دقائق عندما شارك في جلسة ساخنة عن مستقبل ثورة يوليو ضمن ندوة موسعة شارك فيها عشرات المفكرين والسياسيين المصريين والعرب، ففي الندوة التي عقدت عام 1986، كان الروائي الأسمر النحيل يجلس فاردًا ظهره إلى الوراء حتى يكاد ينظر إلى السقف، يضع الغليون في فمه باستمرار، ينفث الدخان بهدوء، ويطيل الصمت حتى تتخيل أنه لا يرغب في الكلام، ولا يسمع ما يدور، وعندما يتكلم تكتشف أنه كان يستوعب أدق التفاصيل، يتحدث بهدوء لافت عكس معظم المشاركين، صوته يخرج عميقًا باردًا مبحوحًا كأنه خارج من قاع بئر، لكن تعبيراته حادة قاطعة ومواقفه جذرية كأنها أرقام وحسابات رياضية لا تحتمل الخلاف.

وعندما انتهت الجلسة، لم يشارك منيف في حفل الغداء الجماعي، وجلس في ذلك الركن مع غليونه، كنت أراقبه منذ الصباح لأتحين الفرصة وأطلب موعدًا لحوار صحفي، فقد كانت روايته «مدن الملح» تثير ضجة كبيرة بين المثقفين والمهتمين بالأدب (كان قد صدر منها جزآن فقط في ذلك الحين).

في حقيقة الأمر، لم تكن الرواية تروقني، كانت بالنسبة لي ثقيلة وجافة في موضوعها ولغتها، وكنت أشعر أن الروائي القادم من عوالم السياسة والاقتصاد وشركات النفط يريد أن يتخذ الأدب مطية للتعبير عن أفكاره كمناضل بعثي قومي، ولم أكن أعرف حينها بالضبط هل هو سعودي أم عراقي؟، وكنت مرة أرجح أنه سعودي مطرود من بلاده وينتقم بهذه الهجائية الروائية العنيفة، ومرة أرجح أنه عراقي أو فلسطيني أو سوري، فلم تكن المعلومات تتوفر لنا في ذلك الزمان كما تتوفر الآن، فمرة نقرأ أنه يعمل في بغداد أو يقيم في دمشق، أو مولود في الأردن، أو صديق ورفيق طريق للروائي الناقد الكبير جبرا إبراهيم جبرا (وهو أيضًا لم نكن نعرف بدقة هل هو عراقي أم فلسطيني؟). وكنا نكتفي بوصف منيف بأنه «روائي عربي»، وكان خطاب القومية العربية يساعدنا في ذلك، فاللغة المشتركة أهم من الانتماءات «القُطرية» والإقليمية.

بعد أن انتهى الغداء طلبت منه موعدًا للحوار، فاعتذر دون أن يسأل عن أي تفاصيل.

* شعرت بنوع من الإهانة وقلت له بإصرار: لن أترك الفرصة، لدي الكثير من الأسئلة التي تشغلني شخصيًا وصحفيًا، ولا أعرف متى يمكنني أن أقابلك مرة أخرى؟.

- رد بنفس الهدوء البارد: هل قرأت لي شيئًا؟

* قلت: الأشجار واغتيال مرزوق، ومدن الملح.

- قال: هل تريد حوارًا حول أعمالي الروائية أم في موضوع الندوة؟

* قلت: في الأدب والسياسة معًا.

دون أن يبتسم، حدد لي موعدًا في اليوم التالي بعد الغداء.

عزمت أمري على إدارة حوار هجومي انتقامًا من هذه المعاملة «البدوية» الفاترة، وفي الغد بدأت حواري بسؤال استفزازي عن النظرة السوداوية للواقع العربي في أعماله، هل هي نوع من الانتقام الشخصي، وهل المزاج الاكتئابي لروائي ما يمكن أن ينعكس على شخصياته وأجواء أعماله الأدبية، ثم اتهمته بالمبالغة في تعرية التخلف الغربي إرضاءً لنقاد الغرب ونزعات المعارضة اليسارية المتطرفة، وهاجمت أسلوبه في الخلط بين التاريخ والخيال الروائي، كما هاجمت إطالته في وصف الأماكن، وتنميطه للشخصيات التي تظهر كأنها انعكاس مباشر لأشخاص يعرفهم في الواقع.

مع تصاعد حِدّة الحوار، رأيت أول ابتسامة على وجهه، وكانت هذه الانفراجة الصغيرة في الشفتين الأفريقيتين بداية تغيير المزاج النفسي بيننا، تبادلنا الكلمات الطيبة ومشاعر الود، ما أشعرني بقدر معقول من رد الاعتبار، وصار الحوار الهجومي شجرة مودة، ومدخلًا لعالم منيف الأدبي بروح جديدة، ونظرة أكثر إنصافًا.

المثير فعلًا أن الفهم الجديد لمشروع الروائي الكبير لم يكتمل عندي إلا بعد صدور روايته (الأولى والأخيرة) المعنونة «أم النذور»، فهي أول رواية كتبها وآخر رواية نشرها، وقد رأيت فيها بوضوح أن الطفل سامح هو متعب الهذال في «مدن الملح»، وهو عساف في «النهايات»، وهو رجب إسماعيل في «شرق المتوسط»، بل هو أيضًا زينب كوشان في «أرض السواد»، وهو الفنان ضاري، ومرزوق، وآخرون ممن عانوا من سلطة القمع والخوف والجهل والقهر المتمثلة في الشيخ زكي، و«دوجما» الأب المشارك في الضرر ليس عن سوء نية أو شر، لكن تحت ثقل التاريخ العبء، والموروث السلبي، والارتكان إلى قيم تخلف عتيقة، لا تقود إلى مستقبل أفضل.

وفي نظري، فإن أجواء هذه الرواية التي أرجأ منيف نشرها عمدًا، تحمل كل بذور وملامح عالمه الروائي من حيث المضامين والأساليب الفنية أيضًا، فهي تبدأ بوصف مبدع لزقاق الشيخ مجيب، وتمضي بطريقة أقرب إلى الواقعية السحرية في وصف المكان وتأصيل شخصية الشيخ بنوع من التاريخ الفضفاض، المموه بذاكرة شعبية ضبابية وتأويلات متباينة، تبتعد عن الحقائق القاطعة، وقد ساعد على ذلك خيالات الطفل سامح وكوابيسه وأوهامه، وتعددت طرق السرد في الرواية وكأنها تتضمن تكثيفًا للأساليب التي استخدمها منيف في أعماله كلها، فهناك الوصف، وهناك تيار الوعي وتقنيات المناجاة والمونولوج الداخلي وتعدد مستويات اللغة وقفزات الزمن، وهناك التوثيق المتداخل مع الخيال، وعلى مستوى المضمون، بدت «الخيبة» عنوانًا رئيسيًا للشروخ المخيفة التي تسكن الإنسان والمكان، والتي تجلّت في الإهداء الصادم الذي صدر به منيف رواية «حين تركنا الجسر»، والذي قال فيه:

«إلى عاصم خليفة/ أحمد مدنية، وحمزة برقاوي: ذكرى خيبات كثيرة مضت، وأخرى على الطريق»

هكذا كان اختيار منيف لعالمه أشبه باختيار الطبيب الذي وهب حياته لكشف الخلل ومطاردة المرض، بعد أن كشفت نكسة 67 عن حجم التخلف والخواء والقيم السلبية في مجتمع يستتر خلف الشعار، ويلعب فيه صبحي المحملجي (مثقف السلطة) دور المحلل لتمرير واستمرار الفساد تحت قشرة زائفة من التمدين الشكلي والحداثة الوهمية لتجميل الصحراء مقابل نهب الغرب للنفط، والأخطر من ذلك كله تحطيم ثوابت الشخصية العربية وتشتيت اهتماماتها الأصيلة وتشويه منظومتها القيمية والتراثية ومسخ المكان ذاته ليصبح مجرد سيرك للمنتفعين.

لقد استيقظ منيف على صدمة النكسة، الصدمة التي اضطر فيها جيله، و(الأجيال التالية أيضا) لترك «الجسر» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان متعددة في الرواية الرمزية التي بدت لمعظم النقاد كرواية فلسفية مغلقة، ضعيفة فنية، لكنها كانت عند منيف بمثابة رسالة مشفرة في شكل كابوس كافكاوي يدور حول المأساة الغائرة في التكوين العقلي والنفسي لجيل المنشأ!

ربما لهذا كان منيف يجاهر وطالب بدفع الرواية العربية نحو مسار ومصير جديد عقب النكسة، وكان يكرر ذلك بلا ملل في حواراته الصحفية ومقالاته ورواياته أيضا، وقد أورد ذلك مبكرًا في رواية «شرق المتوسط» على لسان رجب إسماعيل وهو يكتب لشقيقته أنيسة عن أهمية التحدث عن أمور مهمة، والأفضل مزعجة في رواية تكشف الضلال السياسي، والفوضى المدمرة، لقد فسد العالم تمامًا كما قال في «الأشجار واغتيال مرزوق».. تفتتت خلاياه، تعفن، لم يعد ممكنًا إصلاحه أبدًا، يجب أن يدمر نهائيًا ليقوم على أنقاضه عالم جديد، لعل بشراً من نوع جديد يأتون من صلب هذه الأرض التي تملؤها طبقة سميكة من القذارة.

اليوم وبعد 30 عامًا على أول لقاء بيننا، أتقدم للروائي المناضل من أجل الحرية والتقدم باعتذار مستحق، فقد فضح منذ سنوات كل هذا العفن في مجتمعاتنا، وحذرنا منه، وأشهد أن تخلف مدن الملح وهزائم الأجيال المتتالية لم تنل أبدًا من روح منيف المقاومة، فلم يفكر في إنزال الحِمل عن ظهره، وظل متفائلًا وهو يعلن في أخريات أيامه- وقد هاجمه المرض- أنه يتمنى التغلب على أوجاعه ليبتعد قليلًا عن أسلوب التعبير الداكن، ويكتب رواية جديدة ساخرة ملونة بالأمل، وفي مقابل التحذير من خيبات الماضي والمستقبل في إهداء «حين تركنا الجسر»، أشهر منيف تفاؤله علنًا وهو يهدي كتابه «لوعة الغياب» إلى المبدع سعد الله ونوس ويشيد بمقولته الرائعة «لقد حكم علينا بالأمل».

نعم يا مُتعَب.. (يا واحد من المُتعَبين في عالمنا العربي البائس).. نحن محكومون بالأمل.

جمال الجمل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية