في يوم 7 يوليو الجارى، نشر نقيب الصحفيين السابق الأستاذ ضياء رشوان مقالاً مهماً في «المصرى اليوم»، تحت عنوان «إلى أحرار العالم وقناة الجزيرة ومنظمة العفو.. أنقذونا»، وهو المقال الذي استخدم صاحبه في كتابته حيلة بديعة، تمثلت في الإيحاء بداية أنه يستنجد بالخارج لمواجهة قانون مصرى يقمع الحريات، قبل أن يتضح في نهاية المقال أن النص القانونى المنشور ليس سوى أحد القوانين المطبقة في دولة قطر.
أراد رشوان من هذا المقال أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ منها أن يكشف عن طبيعة القوانين الاستبدادية في قطر، التي تدعى الحرص على الديمقراطية والحريات، ويدين انحياز قناة «الجزيرة» والتوظيف السياسى المغرض لها، وينتقد بعض منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تكيل بأكثر من مكيال. لكن هدفاً آخر تحقق بسبب هذا المقال، ربما لم يكن من المقصود تحقيقه؛ إذ كرّس حقيقة أننا نعيش «أزهى عصور النزع من السياق». فبمجرد نشر المقال اقتطع ناشطون عنوانه وبعض سطوره وراحوا يتداولونها على مواقع التواصل الاجتماعى مع الإشارة إلى «سقوط الكاتب» و«تخليه عن 30 يونيو»، و«عمالته للجزيرة»، كما علق كثيرون على المقال في موقع «المصرى اليوم»، ليدينوا «تخلى الكاتب عن الوطن» أو «يشيدوا باستيقاظ ضميره وتصحيح مواقفه تجاه الانقلاب العسكرى».
شىء من هذا القبيل حدث مطلع هذا الشهر، حين أدلى الأستاذ جورج إسحاق، عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، بتصريحات يدين فيها بشدة حادث هجوم عناصر «داعش» على الارتكازات الأمنية للجيش الوطنى في سيناء. ومن بين ما حرص عليه إسحاق خلال تلك التصريحات أن ينتقد «صمت العالم» عن إدانة الحدث الإرهابى وتخاذله في التضامن مع مصر لمواجهته.
لكن البعض اقتنص عبارة من العبارات التي وردت في تصريحات إسحاق، وراح يُحرّفها، لتفيد «المطالبة بتدخل دولى في سيناء»، وبناء على ذلك فقد نُصبت حفلات النقد والتجريح بحق الرجل، كما تم اتهامه بالعمالة والخيانة، رغم أنه أدلى على الفور بتصريحات مؤكدة للمعانى التي أراد التعبير عنها، ومزيلة لأى لبس أو سوء فهم.
لا تختلف هاتان الواقعتان عن الهجوم الحاد الذي استهدف الدكتور خالد منتصر حين تحدث في أحد المنتديات عن خطورة استخدام مقاربة «الإعجاز العلمى للقرآن» بشكل يتصادم مع المعارف العلمية، أو يسىء استخدامها ويلوى عنقها، محذراً من أن هذا الأمر يضر بالعلم وبالفهم الصحيح للدين في آن واحد. ولما كان هذا الحديث قد صادف قرب حلول شهر رمضان الكريم، فقد استخدم منتصر التأويلات التي تستهدف إبراز «عوائد صحية مزعومة للصيام بادعاءات علمية غير مثبتة» من وجهة نظره، للتدليل على أن هذا الأمر لا يفيد العلم ولا يعزز إيماننا بعبادة الصوم.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، فقد تعرض الرجل لهجمات حادة من أطراف عديدة، كما صورته بعض التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى باعتباره «مناهضاً للصوم»، وصولاً إلى وصفه بـ «الزندقة» وتكفيره.
تقع كل هذه الممارسات في خانة «النزع من السياق»، وببساطة فإن فهم النص Text (أى الكلام المكتوب أو المنطوق الصادر عن أي شخص أو جهة) لا يجب أن يتم بمعزل عن السياق Context (أى الظروف والعناصر المحيطة بالنص والتى يكون إدراكها لازماً لفهمه).
يقول «فان دايك»، عالم اللسانيات الشهير، في كتابه المهم «النص والسياق» إن «الاكتفاء بالبنية السطحية المجتزأة للخطاب أقصر طريق إلى التأويل المغرض لمعناه». وببساطة شديدة، فإن الاكتفاء بقراءة عنوان مقال رشوان، أو منطوق بعض ما قاله إسحاق ومنتصر، يمكن أن يقود إلى تحليلات من نوع أن الأول «ضد 30 يونيو»، وأن الثانى «مع التدخل الأجنبى» في مصر، وأن الثالث «فاسق». سيمكن لنُقاد رشوان وإسحاق ومنتصر أن يجدوا عشرات الانتقادات التي توجه إليهم، لكن ليس من بينها أبداً أن الأول يناصر قطر، وأن الثانى ضد الاستقلال الوطنى، وأن الثالث يهاجم الدين.
يأخذنا هذا إلى ما يقوله عالم الاتصال الأمريكى «أدى كونتسمان» في أحد أبحاثه عن «استخدام آلية النزع من السياق كأحد أساليب الاغتيال والتشويه المعنوى، وتبديد إرادة حماية القيم في المجتمع».
سيتورط بعضنا، عن عمد أو عن جهل، في «نزع النصوص من سياقها»، بما يحرفها عن الحقيقة، بغرض التشويه المعنوى أو إشاعة روح اللامبالاة واليأس، وتكريس فكرة أن «الكل خائن وفاسق وجبان»، وهو أمر لو تعلمون جلل.