حادث غرق مركب الوراق الأخير، الذى أودى بحياة أكثر من عشرين نفساً بشرية، أكد ما أثبتته الأحداث اليومية فى مصر دائماً وفى كل العصور، أن الإنسان لدينا بلا قيمة، سواء مات فى عبارة، أو فى مركب، أو فى طائرة، أو فى قطار، أو فى حريق، أو فى حوادث الطرق، أو فى عملية إرهابية، لذا نجد أننا نتصدر الإحصاءات الدولية فى بعض هذه الأحداث، وبصفة خاصة على الطرق. السؤال الذى لا أجد إجابة عنه دائماً فى نهاية أى مناقشات هو: لماذا كان الإنسان المصرى دائماً بلا قيمة، أو لماذا كان دائماً رخيص الثمن، ولماذا تتكرر الحادثة تلو الأخرى بنفس الطريقة دون اتخاذ ما يلزم من إجراءات عدم تكرارها؟
هذه هى الحقيقة، حتى اعتادت الأذن سماع مثل هذه الأنباء المتتالية، ومن مناطق مختلفة، وكأن التخلف هو السمة الغالبة على المجتمع بأسره، الحريق فى الزمالك بالعاصمة، والتصادم فى قنا بالصعيد، والمشاجرة فى الدقهلية بالدلتا، والهجرة غير الشرعية فى كفرالشيخ، والخطف فى القليوبية، وأحداث العنف فى الشرقية، وتهريب السلاح فى مطروح، والمصادمات القبلية فى الأقصر، وبلطجة فى البحيرة، وحدّث ولا حرج من بورسعيد إلى الإسماعيلية، وحتى السويس، إلى أن تصل إلى المأساة فى سيناء، بما يشير إلى أن البلاد من أقصاها إلى أقصاها واقعة فى حزام الإهمال والتسيب والفوضى والدم، دون إيلاء القضية الاهتمام الذى تستحق.
فحتى سيناء، أصبح الخبر القادم من هناك هو الآخر تقليديا يوميا، لم يعد يحظى بالاهتمام الذى يستحق، استشهاد ضابط أو جندى أو مجموعة جنود، لم يعد المتابع يتوقف أمام المسؤولية الأسرية التى كانت تقع على عاتق هذا الضابط أو ذلك الجندى، كيف أنه كان مسؤولا عن الإنفاق على أسرة بأكملها، ربما عن الأم والأب أيضا، ربما عما هو أكثر من ذلك، ربما كان هو المشروع الذى وهب أهله حياتهم من أجله، من أجل تربيته وتعليمه، كانوا فى انتظار يوم تخرجه فى الجامعة ليكون ضابطا، أو تخرجه فى الجندية ليبدأ حياته العملية، بالتأكيد الإرهاب لا يفرق، ولا يفكر، ولا يراعى أى مشاعر، إنسانية أو غير إنسانية، ناهيك عن أن ذلك الشهيد لا حول له ولا قوة، كان يدافع عن حدود وطنه، أو عن أمن وطنه، كان ينفذ تعليمات، لو لم ينفذها سوف يعاقب، ربما رميا بالرصاص أيضا، هو عملياً فى أرض معركة.
المهم أن المتابع لحوادث القتل اليومية التى تشهدها البلاد، من أقصاها إلى أقصاها، يجد أننا أصبحنا نتجاوزها بنفس الطريقة بلامبالاة، عدد القتلى واحد، أو خمسة، أو عشرة، أو عشرون، لم تعد هناك مشكلة، أصبح الخبر مألوفاً للسمع كما للعين، بالتالى لم يعد هناك رد فعل يتناسب مع الحدث، بمعنى أصح لم تعد هناك مشاعر، لم تعد هناك مروءة.
اعتدنا التعامل مع كل حالة بحالتها، أى كل حالة على حدة، بطريقة واحدة، أصبحت معتادة للصحفيين كما للرأى العام، انتقل إلى مكان الحادث السيد الوزير، وأيضا المحافظ، وربما رئيس الوزراء، تبعاً لعدد الضحايا، تقرر صرف ٥٠٠٠ لأسرة كل ضحية، و٢٠٠٠ جنيه لكل مصاب، انتهى دور الدولة رسميا انتظارا لحادث جديد لن يتأخر، النيابة تبدأ التحقيق، أربعة أيام، ثم خمسة عشر يوما حبسا احتياطيا، لعامل أو موظف غلبان، وربما لأكثر من شخص، ثم إخلاء سبيل بعد ذلك، حكم بالسجن سنتين أو ثلاث فى أول درجة، يتراجع إلى البراءة، أو وقف التنفيذ بعد ذلك.
ما الذى تغير إذن، ما الذى يمكن أن يمنع تكرار مثل هذا الحادث فى اليوم التالى مباشرة، ما هى الإجراءات التى تم اتخاذها لتصحيح هذه الأوضاع الخاطئة؟ قد تصل الأمور مع بعض الحوادث الكبرى إلى إقالة وزير أو نقل مسؤول إلا أن المراكب المهترئة كما هى، الزيادة فى عدد الركاب كما هى، الطرق والمطبات كما هى، سلوكيات المواطن كما هى، والمسامح كريم، ويا بخت من قدر وعفا، والطيب أحسن، وأخيرا الحى أبقى من الميت، الله يرحمهم.
هناك ثقافة غائبة تسمى منع الحدث قبل وقوعه، هناك الأمن الصناعى، ليس طبعا بمفهومنا الذى توقف عند طفاية الحريق، هناك التفتيش الدورى، أيضا ليس بمفهومنا المتعلق بالشاى والإكراميات وكله تمام يا فندم، هناك مبدأ الثواب والعقاب، كما نص عليه الكتاب، أخيرا هناك القضاء العادل، كل ذلك سوف يصب فى النهاية فى حماية أرواح البشر، كل ذلك سوف يرفع من قيمتهم، سوف يعزز من كرامتهم.
إذا كانت القوانين لدينا لا تعتبر أن عامل المركب المهمل قاتل مع سبق الإصرار فيجب تعديلها فورا، وإذا كانت تعتبر أن مسؤولى شرطة المسطحات الذين لم يؤدوا عملهم بوازع من المسؤولية والضمير أثناء التفتيش على هذه المراكب ليسوا قتلة مع سبق الإصرار فيجب تعديلها فورا، وإذا لم تعتبر أن الوزير المسؤول عن مثل هذا القطاع تقع عليه المسؤولية المباشرة لمثل هذه الأحداث أيضا يجب تعديلها فورا. وعلى هذا يكون القياس فى كل ما من شأنه إهدار حياة البشر بكل هذه السهولة والبساطة، حتى أصبحت النفس البشرية مسعرة رسميا بخمسة آلاف جنيه، إضافة إلى عزاء السيد المحافظ أحيانا.
أعتقد أن الأولوية يجب أن تكون لتعديل مثل هذه القوانين، وليس للقوانين الصادرة من أجل فلان أو علان، أو حتى قوانين الكتابة والقراءة والنشر، التى استحوذت على اهتمام أهل القانون وشغلتهم عن الأهم.