لم تسلم مسلسلات رمضان من الحالة المزاجية التي تلبست كتاب الدراما وعكستها الاحداث الدامية التي تشهدتها البلاد مؤخرا، فلم يخرج مضمونها عن القتل والسلب والنهب ورائحة الدماء والفساد والمخدرات , وكأن مشاهد الدماء اليومية كواقع معاش لا تكفى , كى تلطخ حياتنا مشاهد درامية أكثر دموية وتوحش , واصرار غريب على تكيدرنا بهذا الكم الهائل من الجرائم التي ترتكب في حق المجتمع واستقراره , حتى تحولت إلى دراما الكوابيس والاجرام والعصف بالمشاعر والتلذذ بتعذيب المواطن!! .
ولا أجد مبررا لهذا الكم من السوداوية في التناول مهما كانت المبررات، وجرنا إلى العوالم السفلية مهما كانت الحقيقة مرة , والواقع أكثر توحش وشراسة مما نراه على الشاشة .
في الماضى كان لشهر رمضان الكريم بريق ومذاق خاص في طقوسه الروحانية والدنيوية، مسلسل واحد كان كفيلا باشباعنا نفسيا وانسانيا , ويجعل الأسرة بأكملها تلتف حول التليفزيون لمشاهدته في ترقب واشتياق , والأهم دون ارتباك أو تحسب من المحتوى لمشهد خادش للحياء فيه ايحاءات جنسية انتشرت بشكل لافت في الأعمال الفنية في السنوات الأخيرة , أو لفظ خارج أصبح جزء من لغة الحوار المجتمعى !!, فمن منا لا يتذكر مسلسل «ليالى الحلمية» مثلا ,أو «الشهد والدموع» , «المال والبنون» , «بوابة الحلوانى» وغيرها للعملاق الراحل أسامة أنور عكاشة التي كان يجب فيها كل التفاصيل بما فيها من مراحل تاريخية واجتماعية وفكرية واقتصادية , وتركز على مشاكل المجتمع في سياق درامى متكامل وبحرفية عالية , وعمق الأديب والروائى المتمكن من أدواته ومهاراته الكتابية , دون اسفاف أو حشو , كذلك مسلسل «رأفت الهجان» للكاتب الراحل المتميز صالح مرسى- الذي ترك بصمة متميزة في أدب الجاسوسية- بكل ما يحمل من محطات تاريخية فارقة في عالم التجسس دون تزييف للحقائق أو الأحداث وعلمنا كيف يكون حب الأوطان والتضحية من أجلها دون أن يخدم الاثارة والتشويق المفرغ من أي مضمون , على حساب الجوهر الحقيقى والرسالة المراد توصيلها للمشاهد !!
ومع تطور الميديا وانتشار القنوات الفضائية واحتكار رجال الأعمال لمعظمها والسباق المحموم لفرض المادة الاعلانية داخل المسلسلات التي كانت مستفزة للغاية، تغيرت معايير الانتاج الدرامى شكلا ومضمونا , فكانت النتيجة أن أصابتنا التخمة الدرامية وسط هذا الكم الهائل من المسلسلات المعروضة على القنوات الفضائية بأنواعها والتزاحم لعرضها , في أوقات تكاد تكون موحدة وفى معظمها يتربع الاسفاف والابتذال على عرش المحتوى الفنى المبتغى , وفى ضوء هذا الصراع غابت الجودة والتميز من عالم الدراما , ليحتلها عالم الادمان والجريمة والارهاب التي أضفت جوا من الكآبة والاحباط على جموع المشاهدين , وانعكست سلبا على المتلقى الذي لا ينقصه دراما سوداوية تدخله في المزيد من الاحباط , بدلا من أن يتلقى جرعة من الأمل تخفف عنه ما يعايشه من كوابيس الواقع , التشبث بالأمل وليس الوهم وهناك فرق كبير بينهما .
لست ضد كشف المستور في حنايا المجتمع وتشخيصه بحكمة، لأن تشخيص الداء هو نصف العلاج , ولكن أن نعيش على مدار شهر كامل يفترض فيه التصالح مع الذات والتقرب من الله, في تلقى جرعات من مشاهد العنف والقتل والدم والاهاب وتعاطى المخدرات والادمان مصحوبا بمصطلحاته الغريبة على مسامعنا والتفنن في عالم الجريمة المتشابك والمعقد والفساد والرشاوى , ونحن بالأساس نعيش واقع لا يقل عنفا ولا ارهابا عما نراه في المسلسلات , فهذا كثير ومرهق نفسيا لأننا لسنا بحاجة إلى المزيد مما يذكرنا بقبح ما نعايشه من معاناة يومية تضخم من حجم الهواجس وإنعدام الأمان والأمل في غد أفضل يصلح ما أفسده الدهر .
لوحظ غياب وجوه تعودنا على وجودها في المسلسلات الرمضانية مثل الفنان المتميز يحيى الفخرانى الذي لا يكاد يخلو شهر رمضان دون استمتاعنا بأحد أعماله الفنية المبدعة، الفنانة يسرا ليلى علوى نور الشريف وآخرون , وبدون هذه الوجوه لم نكن نتحمس على المشاهدة , ربما لم يجد هؤلاء السيناريو الجاذب أو المضمون المحفز على الابتكار والابداع والاضافة؟ لكن أيضا لا نغفل المبالغة في الأجور التي تقاضاها النجوم المشاركة في الأعمال الدرامية كانت مستفزة لدرجة كبيرة , في الوقت الذي يعانى فيه المجتمع بكافة أطيافه من شح العيش وضيق الحال ونضوب السيولة وغلاء الأسعار !!