لا أعرف ماذا سوف يفعل اليونانيون بعد رفضهم بأغلبية مرموقة خطة التقشف التى طلبها الاتحاد الأوروبى كشرط لإعطاء اليونان حزمة إنقاذ اقتصادية ثالثة. فأياً كان رأى من ذهبوا إلى صناديق الاقتراع بالرفض، فإن ذلك لن يغير من الواقع الاقتصادى شيئا، والحقيقة أنه لولا الاعتزاز الأوروبى الكبير بالدولة التى تعتبر أصل الحضارة الغربية لأفلست الدولة منذ وقت طويل، لأنه من الجائز أن تكون أصل حضارة بعينها، ولكن الواقع يكون أمراً آخر. النظرة الأولى على اليونان تقول إنها تقع فى مكانة عالية، فقد استقلّت عن الإمبراطورية العثمانية فى عام ١٨٢١، ومساحتها ليست بالكبيرة فهى تقارب ١٣٢ ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها أقل من ١١ مليون نسمة. وفى دولة فيها مثل هذه المواصفات، ودخلت المجتمع الأوروبى منذ ١٩٨٢، ومنطقة «اليورو» فى ٢٠٠١، فإنه ليس مدهشا أن يكون نصيب الفرد من الدخل المحلى الإجمالى مقوما بالدولار حوالى ٢٧ ألف دولار، وأن يكون موقع اليونان من حيث التنمية البشرية هو ٢٩ على العالم، وأن يكون حجم اقتصادها أكبر من حجم اقتصاد كل دول البلقان مجتمعة.
كيف وصلت اليونان إلى الكارثة التى وصلت إليها؟ يعود ذلك بنا إلى لحظة دخولها إلى منطقة «اليورو» التى كانت تشترط أن يقل العجز فى الموازنة العامة عن ٣٪، واستدعى الأمر تلاعبا بالأرقام حتى تدخل اليونان إلى المنطقة، (للحق لم تكن اليونان وحدها هى من فعل ذلك فقد فعلتها إيطاليا أيضا). ولكن ذلك من الممكن أن يكون أخطاء فى الحسابات، ولكن ما لم يكن خطأ فكان أن اليونانيين قرروا أن يكونوا أغنياء على حساب الغير من الأوروبيين. فى البداية كانت الاستفادة من المميزات التى يعطيها المجتمع الأوروبى للدول والمناطق الفقيرة، ثم بعد ذلك جاء الاقتراض والتسهيلات التى يتيحها التواجد فى سوق غنية كانت على استعداد لإعطاء اليونان ما تريده لكى تقيم دورة أوليمبية لم تكن لديها الموارد لتقيمها، ولكنها أقامتها على أى حال. وقبل الأزمة العالمية الاقتصادية بلغ العجز فى الموازنة العامة كنسبة من الناتج المحلى ٦٪، وبعدها فى ٢٠٠٨ بلغ ١٢.٧٪، وفى ٢٠١٠ بلغ ١٣.٦٪، (كنا نلطم الخدود فى مصر لأن العجز وصل إلى ٨٪ أو أكثر قليلا). وأصبح الدين العام اليونانى يساوى ١٢٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى.
لا يمكن تفسير التناقض ما بين الأرقام الأولى والحقائق الاقتصادية إلا بأن اليونانيين كانوا يعيشون فى مستوى أكثر ارتفاعا من قدراتهم. ومع ذلك قررت الدول الأوروبية التدخل لإنقاذ الاقتصاد اليونانى بحزمة إنعاش بدأت بقروض وتسهيلات وصلت إلى ٤٥ مليار يورو، ما لبثت أن ارتفعت إلى ١١٠ مليارات يورو، ومع الإنعاش كان مطلوبا حزمة من السياسات التقشفية. لم يرض اليونانيون عن سياسة التقشف هذه، واكتشفت المنظمة الأوربية للإحصاء- يوروستات- أن حقيقة العجز فى الموازنة العامة فى ٢٠١٠ هو ١٥.٤٪، وبلغ الدين العام ١٢٦.٨٪ من الناتج المحلى الإجمالى. فلم يعد هناك بد مع ٢٠١١ من حزمة أخرى للإنقاذ قوامها ١٣٠ مليار يورو أو ١٧٣ مليار دولار مع خفض الديون بنسبة ٥٣٪، والإعفاء من الفوائد على بقية الديون. كان هناك شرط واحد وهو تطبيق سياسة تقشفية أعطت لليسار فرصة ذهبية للمزايدة، فجرى انتخابه استنادا لبرنامج «ضد التقشف». ببساطة، كان هناك اختبار للديمقراطية اليونانية وقدرتها على رؤية الواقع الاقتصادى كما هو، فكانت على استعداد للهروب إلى الحلول السهلة، تطالب من ناحية بمزيد من التسهيلات والقروض، ولكنها من ناحية أخرى ليست على استعداد لدفع الثمن. العجيب أن اليسار الذى وصل إلى السلطة فى الانتخابات الديمقراطية لم يصل أيضا إلى المسؤولية التى تأتى معها، ومن ثم عبّأ «الجماهير» لكى تقف «ضد التقشف» مرة أخرى فى استفتاء شعبى.
القصة اليونانية التى لدينا هى قصة دولة متواضعة الحال، يحاول الأغنياء وأصحاب القدرة ذبحها بفرض التقشف على أهلها، وهناك من الاقتصاديين من يرى أن التقشف ليس حلا، وإنما التوسع الاقتصادى، ولكن القضية هى ماذا سوف تفعل بالتوسع، وكيف ستستغل الموارد الإضافية المتاحة؟ فى مصر كان اختيارنا مختلفا، فلم يأت لنا ما أتى لليونان، ورغم ذلك فإن العجز ليس بذات الفداحة، كما أن التقشف المطلوب ليس تقشفاً، وإنما هو نوع من الانضباط والمسؤولية.