أتلقى اتصالات شبه يومية، من أصدقاء فى عواصم عربية، يأسفون فيها على ما انحدر إليه حال الشاشة عندنا فى رمضان!
وفى كل مرة لا أجد ما أقوله سوى أنى كتبت، وأن غيرى كتب، فى رمضان الماضى، وقبل الماضى، وقبل قبل الماضى.. ثم فى رمضان الحالى، وكنا جميعاً نقول فى كل الأحوال إن هذا ليس رمضان الذى أراده الله تعالى، ورسوله الكريم، ولا رمضان الذى كنا نعرفه فى أيام مضت، وإن هذا الشهر لا يمكن أن يتحول على أيدينا إلى موسم للتسول، والشحاتة، وإهدار كل قيمة محترمة فى حياتنا على شاشته هكذا، دون حياء.. لا يمكن!
أصدقائى الذين أتلقى اتصالاتهم مشفقين علينا مما هو حاصل، يفعلون ذلك ولسان حالهم يقول إن صناع الشاشة فى رمضان، على هذا النحو المنحدر عاماً بعد عام، إذا لم يكونوا أهل مسؤولية إزاء المجتمع الذى يعيشون فيه، فهناك من فوقهم وفوق غيرهم دولة، لابد أن يكون لها رأى، وأن تكون لها رؤية، وأن تفرضها على الجميع، لأن المسألة فى النهاية تمس صورة الدولة نفسها، فى الخارج، وتمس صورة المجتمع نفسه، فى الخارج أيضاً، ولا تمس فى المقابل صورة أحد من هؤلاء الذين يهدمون فى شهر ما يبنيه البلد كله فى 11 شهراً!
وما يأسف له كل واحد فينا حقاً، أن الحكاية انتقلت نقلة نوعية هذا العام، وأن الذين كانوا يتسولون من فوق شاشة رمضان، بالكلمة والعبارة والصورة، فى أعوام سابقة، قد حولوا الأمر فى هذا العام إلى تجارة ببراءة الأطفال أنفسهم، وإلى استغلال أطفال صغار فى استدرار عطف المتبرعين لمشروعات الخير!
وما لا يعرفه الذين ينحدرون بنا إلى هذا الدرك أن الراغبين فى التبرع لمشروعات الخير، وهم كثيرون، ليسوا فى حاجة لمثل هذا الترخص فى طلب التبرع، فكل قادر بيننا، أو فى عواصم العرب، ليس فى حاجة إلى كل هذا الابتذال على الشاشة ليتبرع، وكل قادر يعرف أن عليه دوراً اجتماعياً فى مجتمعه، لا ينتظر مثل هذه السخافات على شاشة رمضان، بل ربما صدته سخافات من هذا النوع عن فعل خير كان ينويه، وربما تدفعه إلى إغلاق الجهاز على الفور، وتسويد الشاشة أمامه ليستريح، ويريح أعصابه من ضغط ما يراه عليها!
يكفى جداً إعلان صغير ومحترم على أى شاشة عن أن أصحابه بصدد بناء مستشفى، أو مدرسة، فى المكان الفلانى، وأنهم فى حاجة إلى جهود القادرين، وأن هذه هى التليفونات التى تتلقى الاستفسارات والأسئلة عن المشروع.. هذا يكفى جداً دون حاجة إلى بكاء، ولا إلى صراخ، ولا إلى أطفال يتألمون ويتوجعون على الشاشة!
ولو أن كل واحد من قادرينا قد أخذ الطائرة إلى الكويت- مثلاً- ثم عاد، فسوف يرى أن الإخوة هناك عندهم تجربة يمكن أن تغنينا عن هذه السخافة المتكررة مع كل شهر صيام جديد.
القادرون فى الكويت، التى ضربها الإرهاب أمس، لم ينتظروا دعوة من الدولة، ولا إعلاناً فى التليفزيون، وإنما أدرك كل واحد فيهم أن عليه مسؤولية اجتماعية فى بلده، وأنه يجب أن يمارسها من تلقاء نفسه، دون دعوة من أحد.
سوف تجد هناك ما يشبه المدينة الطبية المتكاملة، التى تضم عشرات المستشفيات، فى أكثر من اتجاه، وفى أكثر من تخصص، وفى مكان واحد، وسوف تكتشف- يا أى قادر فى مصر- أن الدولة الكويتية لم تدفع مليماً فى أى مستشفى فى تلك المدينة، وأن مركز الشيخ سالم العلى لأمراض النطق والسمع، على سبيل المثال، أنشأه صاحبه من جيبه، ووضع اسمه عليه، ثم أعطاه للدولة كاملاً وجاهزاً لتديره هى وتتصرف فيه.
وليس هذا المركز الطبى إلا مثالاً لعشرات المراكز غيره، وتظل كلها تدل على أن القادرين أصحاب الضمائر فى أى بلد إذا أرادوا فعلوا، وأنهم ليسوا فى حاجة إلى دعاية رمضانية مبتذلة تغريهم، ولا إلى دعوة ساقطة من نوع ما نشاهده بعد كل إفطار تحببهم فيما يتعين عليهم أن يملكوا زمام المبادرة إليه!