بمناسبة مرور عام على رئاسة عبدالفتاح السيسى لجمهورية مصر العربية، وجهّت لىّ عدة وسائل إعلامية مصرية وعربية وأجنبية أسئلة لتقييم أداء الرجل فى السُلطة. وقد تزامن ذلك مع زيارة الرئيس السيسى لكل من ألمانيا وفرنسا، حيث استقبل استقبالاً حافلاً بواسطة مستشارة ألمانيا ميركل ورئيس وزراء فرنسا رولاند، وكذا من أفراد الجالية المصرية الذين يعيشون ويعملون أو يدرسون فى البلدين. كذلك حرص عبدالفتاح السيسى على لقاء رجال المال والأعمال والصناعة فى البلدين، ودعوتهم للاستثمار فى مصر.
وكان الرئيس السيسى قد زار من قبل كلا من الصين وروسيا، ووقّع معهما عدة اتفاقيات لتدعيم التعاون مع البلدين فى كل الميادين. وفعل الشىء نفسه مع جيران أقرب، هم قُبرص واليونان وإيطاليا. وقبل هذا وذاك، كان قد دعا لمؤتمر اقتصادى فى منتجع شرم الشيخ فى بداية عام 2015، حضره ممثلون حكوميون ومستثمرون من بُلدان الخليج العربى، وأوروبا، واليابان، والولايات المتحدة.
وبشكل مُباشر كان عبدالفتاح السيسى قد دشّن مشروعاً عملاقاً لحفر قناة جديدة موازية لقناة السويس، ولكنها أعرض وأعمق بحيث تُضاعف حركة الملاحة بين المُحيطين الهندى والأطلنطى، عبر البحرين الأحمر والمتوسط، وقناة السويس، القديمة والجديدة، وتخلق مجتمعات عمرانية جديدة، فى كافة أنحاء شبه جزيرة سيناء.
ومن المحتمل أن تؤتى كل هذه المبادرات والمشاريع ثمارها خلال السنوات التالية من رئاسة السيسى، وهى بقية سنوات رئاسته الأولى، وبحيث يمكن أن يُباهى بها، تمهيداً لفترة رئاسية ثانية، يكون جديراً بها.
وكان عديد من المُعلقين يأخذون على عبدالفتاح السيسى أنه لم يقدم للناخبين برنامجاً انتخابياً عام 2014. ومع ذلك انتخبه المصريون بأغلبية جارفة، تجاوزت التسعين فى المائة، ضد مُنافسه حمدين صباحى. ويبدو أن السيسى اعتمد على شعبيته التى تكونت واتسعت وتعمّقت خلال معركة المواجهة مع الإخوان المسلمين، والرئيس الإخوانى د. محمد مرسى. والشاهد أنه كان مُحقاً فى حساباته فى ذلك الوقت، أى قبل سنتين. وبالتالى لم يحتج إلى برنامج انتخابى، بالمعنى السياسى الحزبى الديمقراطى المألوف.
أما وقد استقرت الأمور نسبياً فى الداخل المصرى، ونجح الرجل فى مُبادراته الإقليمية - عربياً، وأفريقياً، ومتوسطياً ودولياً، فلم يعد هناك ما يمنع الرئيس السيسى ومُعاونيه من صياغة رؤية سياسية مُتكاملة للمستقبل مصرياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً، وأن يدعو كل من يُهمهم الأمر أن يتحاوروا حولها حتى تتبلور، وتصبح بمثابة عقد اجتماعى شامل لمسيرة الشعب والأمة خلال العقد القادم، 2015-2025.
وجدير بالذكر أن كل حُكّام مصر العظام كان لهم مشروع يتجاوز حدود مصر، منذ أحمس ورمسيس الثانى، فى التاريخ الفرعونى القديم، مروراً بصلاح الدين الأيوبى، وعز الذين قُطز فى التاريخ الوسيط، وعلى باشا الكبير ومحمد على وإسماعيل، فى التاريخ الحديث، وأخيراً جمال عبدالناصر فى القرن العشرين. كان لكل منهم مشروع إقليمى يتجاوز حدود الدولة المصرية. وكان ذلك أساساً لتأمين حدودها، بداية من النوبة والسودان جنوباً، وفلسطين وبلاد الشام شرقاً، وليبيا والواحات غرباً.
كذلك أعلن الرئيس السيسى، عن مثلث للتنمية، تمتد قاعدته من ميناء القصير، على البحر الأحمر، إلى محافظة قنا، جنوب وادى النيل، عبر الصحراء الغربية إلى واحة الفرافرة، ويتجه شمالاً إلى شاطئ البحر المتوسط، حيث رأس المثلث بين الإسكندرية ومرسى مطروح.
إن خطط التنمية العمرانية المذكورة أعلاه، تنطوى على استصلاح واستزراع، ما بين مليون وثلاثة ملايين فدان جديدة، تعتمد فى ريّها على ترشيد استخدام حصة مصر من مياه نهر النيل، وعلى حفر عدة مئات من الآبار الجوفية، وربما مستقبلاً على تحلية مياه البحر المتوسط. كما تنطوى تلك الخطط على بناء عدة مُدن والمئات من القُرى الجديدة، لامتصاص النمو السُكانى المتوقع خلال العقدين القادمين، وكذا لتخفيف الضغط السُكانى فى المُدن الكُبرى شديدة الاكتظاظ فى الوقت الحاضر، وفى مقدمتها القاهرة الكُبرى والإسكندرية.
كما أن من شأن تلك الخطط، إذا تم تنفيذها، أن تجعل مصر بسكانها الذين سيتجاوزون المائة مليون، وبموقعها الجغرافى الفريد، وتراثها الحضارى العظيم قوة إقليمية كُبرى مُهيأة للريادة والقيادة فى دوائرها الحيوية الأربع: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة المتوسطية، والدائرة الإسلامية.
وهذه الدوائر الأربع هى التى تشابكت وتفاعلت مع مصر والمصريين على مر العصور. وارتبطت عظمتها ومشكلاتها بالكيفية التى أديرت بها تلك العلاقات إيجاباً وسلباً.
وسواء كان عبدالفتاح السيسى ومعاونوه على وعى وإدراك بتلك الحقيقة المُعقدة، بمستوياتها وأبعادها أم لا، فمن المطلوب ومن المرغوب أن يعوا ذلك، وأن يُخططوا للتعامل معه فى الآجال القريبة، والمتوسطة، والبعيدة. فإن لم تفعل مصر ذلك، فإن آخرين فى كل من هذه الدوائر الأربع سيفعلون ذلك نيابة عن مصر، ولكن لمصلحته الخاصة أولاً.
إن آخر من وعى تلك الحقيقة من حُكّام مصر، كان جمال عبدالناصر، والذى تحدث عنها صراحة فى كتابه فلسفة الثورة، الذى صدر عام 1954، أى بعد ثورة 23 يوليو بسنتين. والمتفحص للمؤسسات التى شيّدتها تلك الثورة، وتحرك عبدالناصر، وزُملائه، من الضباط الأحرار من خلالها، طوال العقدين التاليين، لابد أن يخلص إلى سر عظمة ذلك القائد. ومع ذلك ليس مطلوباً ولا مرغوباً أن يُحاكى عبدالفتاح السيسى جمال عبدالناصر، ولكن فقط أن يستلهم روح تلك الثورة، وعظمة قائدها.
وفى مقالاتنا القادمة سنجتهد فى الحوار حول ما يمكن أن تنطوى عليه كل دائرة من الدوائر الأربع الحيوية فى بناء رؤية مستقبلية لمصر.
وعلى الله قصد السبيل.