x

صلاح فضل حسن كمال يكشف غرائبية الأسياد صلاح فضل الخميس 25-06-2015 21:56


حسن كمال قصاص وروائى شاب يعرف إيقاع الحياة المصرية وطبقاتها السرية الدفينة ومكامن الإثارة فى خيال الأجيال الجديدة، فيداعبهم بما يشتهون من عوالم غرائبية ترتكز على موروث شعبى يطفو كثيرا على سطح المجتمع فى الريف والمناطق التى امتد إليها من المدن ويتوارى خلف المظاهر الحضرية فى بقية الأحياء دون أن يفقد فاعليته فى ضمائر المجتمع.

وأبرز تجليات هذا الموروث يتكئ على أوهام تتمسح بالدين وتجافى المنطق والعلم والثقافة، بل تنتمى إلى عالم الأساطير المتجددة المتأصلة بحكم الجهل والعقل الخرافى المتمدد، والغريب أن هذه الأوهام تتعايش فى كل البيئات، لكن النموذج الصارخ الذى يقدمه حسن كمال فى رواية «الأسياد» يتجاوز هذه الحالات المعتادة ليقدم عالما غرائبيا لا نظير له فى قرية من أعالى الصعيد تسمى «دجا»، ويتدرج فى كشف الحجب عن «حقائق» الحياة فيها بتخطيط هندسى وأيديولوجى محكم.

فبشير الشاب الذى أفلت من هذه القرية ليدرس الفلسفة فى جامعة القاهرة لا يستطيع التخلص تماما من هذه الخرافة الكبرى التى صنعت عمره بأكمله، حيث أفهموه منذ صغره أن جده الأكبر «داعو» كان ملكا من ملوك الجان، لكنه تنازل عن ملكه وعن جميع قدراته الخارقة وعمره الطويل لكى ينضم إلى عالم البشر بكل ما له وما عليه، وكان بشير يردد لمن يقص عليه أمره «صدق أو لا تصدق»، مع أنه لم يعد يصدق، رغم أنه سمع الحكاية آلاف المرات، أرضعوها لهم جميعا فى الصغر، غرسوها فيهم غرسا، ربما لذلك، ورغم كل ما يدور فى ذهنه عندما يتحدث فى ذلك الأمر حتى مع نفسه، يصاب باضطراب غامض «كيف يستطيع أن ينكر فجأة كل ما سمعه طوال تلك السنوات فى حكايات الأجداد وفى أحاديث كبار أهل البلدة، وحتى فى الأغانى والأهازيج التى يرددها الناس فى المناسبات المختلفة:

داعو لما طلع من باطن الأرض كان جوفه نار

رفع إيديه للسما وقال: يا رب يا غفار

بدّى أكون من طين وتكون لى أرضك دار

قال الإله: كن، خلط النيران بالطين صَبَح فخار»

هكذا طبقا للحكاية، أصبحت بشرة جده الذى كان أبيض كصفحة اللبن سوداء لامعة كما لو كانت إناء فخاريا خرج حديثا من النار، وأصبح لسلالته ميزات يعلو بها على الآخرين فى قدراتهم المادية والمعنوية، حيث صارت إليهم المشيخة، وهى جماع السلطات ومصدر الثروة والنفوذ على الأجسام والأرواح معه، وأوضح من تجلت فيهم جده عثمان وأمه ابنة الشيخ البكرية التى كان اسمها رقية إلى أن تزوجت فأصبحت زوجة عرفات إلى أن أنجبته فصارت أم بشير، لكن المشكلة ظهرت عندما انتقلت إليها المشيخة بصعوبة شديدة، نظرا للصراع الحاد بين تقليدين لهما حكم القانون الحاسم أحدهما ألا تخرج المشيخة عن سلالة عثمان حفيد داعو النجيب، والثانى ألا تنتقل إلى أنثى، وهو لم ينجب ولدا، ولا يعرف من كان صاحب الحل العبقرى الذى قضى بأن يصبح لقب أمه بمجرد تقلدها المشيخة هو «الشيخ أروكا»، وأن يشار إليها دائما بضمائر الذكور، حيث صارت منهم.

وبهذا يتم الوفاء بالتلقيدين المتعارضين. والطريف أن بشير عندما حكى هذه القصة لزميلته وصديقته فى الكلية نور دون أن يتعرض لمشكلة التسمية فلسفيا بحكم تخصصهما الذى لا يبدو له أثر فى الرواية، شعرت نور بمدى الظلم الذى يقع على الإناث، فإذا ما قدر لإحداهن أن تتولى سلطة ولو فى مجتمع متخلف كان عليها أن تسترجل وتنكر أنوثتها، أما إن ظلت امرأة أو فتاة مثلها تعيش فى حى شعبى بالقاهرة وتواجه ظروفها بالعمل فى كل المجالات، ومنها مهنة «التدليك» التى تحترفها فإنها تلتقى بعشرات الرجال الطامعين فيها بأشكال مختلفة، والذى حببها إلى بشير، إلى جانب أنه ولى عهد أتى من عالم أسطورى، أنه كان ينظر إليها بتوقير لم تعهده، صحيح أنها تندرت عليه عندما استنكر وصفه بأنه نوبى أو سودانى، فهو من «دجا» فحسب، فأطلقت عليه لقبا ساخرا، لأنه «إذا لم يكن سودانى فهو عمنا الله».

تشكيل الأسطورة:

تتشكل الرواية على النسق التقليدى أو ما أوثر أن أطلق عليه «إطار السرد الكلى»، حيث يحكيها الراوى العليم بكل شىء، وتتبع نهجا متدرجا فى الكشف عن عوالمها المفعمة بالسحر لغرائب، لكن الضوء مسلط فيها على بشير أساسا دون أن يتحول إلى راو، حيث استدعائه قسرا من القاهرة، فإذا به يلتقى فى القطار بعجوز إنجليزى يتقن العربية سأله عن قريته وعن «الشيخ أروكا» فيثير فضوله، ثم لا يلبث عند وصوله أن يشغل بقضية أزهرية هى إجباره على هجر حياته فى العاصمة والاستعداد لتولى عهد المشيخة بعد أمه، التى كانت قد وعدته بأن تخلى سبيله مخالفة لقواعد السلطة فى «دجا»، لكن شهلى العجوز الذى يقوم بدور الكاهن المدبر الأكبر وحارس التقاليد المتحكم فى المصائر يصر على إلزام بشير بالعهد، ويبعث من يرجعه أسيرا عندما يعنّ له الهرب ليلا ويخضعه لطقوس العلاج والتطهير بالضرب والتعذيب والتهديد بالقتل، وهو العقوبة الضرورية لكل الخوارج من «السهالك» السادة أو «الأجواش» العبيد، ثم يظهر العجوز الإنجليزى فجأة ويتبين أنه متواطئ مع شهلى فى الأمر منذ بدايته، بل يشرح لبشير أصل فكرة «دجا» ودور الإنجليز فى نشأتها، حيث اقتبسوها من معسكرات هتلر التى كان يطلق عليها «معسكرات الجنس الأصيل» أى أصحاب الصفات الوراثية المتفوقة من الألمان، فقرر الإنجليز إنشاء تجمعات مشابهة لجنودهم تسمى «تجا، أى تجمع جنود أجانب»، ثم انقلبت التاء دالا بدلا من أن تكون معسكرا للجنود جعلوها تجمعا لمواطنين من البلاد المحتلة المتعاونين معهم، بدلا من مناهضتهم مقابل زعم عونهم على النهوض والتقدم، وحاولوا اختيار هؤلاء ورجال الدين أولا لتأثيرهم فى الآخرين، لكنهم استعصوا عليهم، فتم اختيار مجموعات أخرى تنصاع للتوجيه وتغرى بالمال أو القوة وتطيع أصحاب البشرة البيضاء، ومع أن بشير يقتنع بهذه الحكاية فإنه يسمع من «جنة» المعتوهة رواية أخرى مخالفة تعتمد على الخرافات، فقد كانت هى من قبيلة الأجواش وجاءهم الجد من الدجاوى يدعوهم إلى ترك مساكنهم على ضفاف النيل، لأن هناك لعنة كبرى ستصيب كل من يبقى هناك، طوفان مثل طوفان نوح، من لم يركب سفينة سيموت هناك ملعونا إلى الأبد، ولم يكن الطوفان إلا بسبب خزان أسوان، ومن بعده السد العالى، هجروا الناس فى أيام معدودة، وأغرقوا ملايين النخل فى يوم عصيب «خدعونا وكان يجب أن يخبرونا أن هناك خزانا وسدا، ثم فجأة بدأ جدك يقول: إن السهالك هم أهل الجان وفك الأعمال السفلية والأجواش هم أهل السحر الكفرة والسهالك هم العارفون بالله، وكان جدك عثمان يختار الأغنياء ليضمهم إلى السهالك والفقراء والمرضى إلى الأجواش الذين حقت عليهم اللعنة». وبهذا تأصلت الطبقية فى ظل بطش سلطة الخرافة، ويكتشف بشير تدريجيا كيفية تنامى الأسطورة، ويتضح له أكثر موقف العجوز الإنجليزى «باركلى» عندما يشارك معه فى تلفيق خرافة تجعل منه شيخا قادرا على اجتراح المعجزات فى نظر الناس، فيعترف له العجوز بأنه شريك شهلى فى تدبير هذه المواقف لقاء حصة كبيرة من الأموال، فالبلد ثرية بأراضيها وخيراتها وما يجنيه أهلها من السحر والشعوذة، وهو كفيل بأن يوهمهم بأن الدنس والقداسة من فعل الجان المسخرين، فهو يشعل الحرائق ويخمدها لإظهار البطولات والمعجزات المفتعلة، لكن الشيق فى هذا النوع من السرد أنه يتم بمتابعة دقيقة للشخوص ودوافعهم ومستوياتهم العقلية والوجدانية التى تتضح خطوة خطوة، فالراوى العليم الذى يخفى مقاصده ويصنع معجزات ويبوح فى كل مرحلة بقدر يسير من أسراره ينبئ عن أن صانعه- وهو الكاتب ذاته- على قدر كبير من المهارة الحرفية والقدرة على تشكيل العوالم التى قد تبدو فى الظاهر سحرية عجيبة، مع أن لها تدبيرها المنطقى وأسبابها العقلية، وهنا يتضح أن غرائبية الرواية التى تتجلى فى الأحداث والمواقف إنما تكمن فى عقول أهل البلدة أنفسهم ومكر من يتلاعبون بمعتقداتهم، إذ إن الصوت الرئيسى الذى أتيحت له المعرفة والفكر جدير بأن يبدد هذه الأوهام وهو فى قلبها.

صناع الأوهام الكبرى:

المدهش فى هذه الرواية أنها تقود القارئ من عالم السحر والغرائب إلى قلب الواقع الحى، وهى تكشف بقوة مذهلة عن أكبر جهازين كفيلين بصناعة أضخم الأوهام، وهما الإعلام والأمن، فعندما ينجح بشير فى الهرب الأليم من قريته الملعونة وشياختها الخرافية، يصبح مطاردا ومهددا بالقتل بناء على قوانينها، ولا يستطيع إنقاذ أمه التى أصيبت بالخرف، فيلجأ إلى محام كبير ليقيم له دعوى يحصل بمقتضاها على حقه فى الوصاية على أمه وعلاجها والحصول على ثروتها، لكن المحامى الذى يعرف أصول اللعبة يدبر له حملة إعلامية فى الصحف وقنوات التليفزيون يندد فيها بالقرية الظالمة المظلومة التى تتحول من بلد الأكاذيب والأوهام إلى وحش خرافى ضخم يمثل خطرا داهما على مصر كلها جراء الجماعات الإرهابية التى تسكنها، وتنتظر الفرصة المواتية للانقضاض على الآمنين، «وبهذا لم تعد (دجا) مجرد مكان أو بلدة نائية غارقة فى الجهل والكذب والسذاجة، بل أصبحت نظام حياة كاملة، فكر منتشر فى الوطن من أقصاه إلى أقصاه». هنا تتمدد الأسطورة لتصبح رمزا يكاد يظلل مصر كلها، لكن شهلى وأتباعه يخشون هذه الحملة الإعلامية ويحضرون «الشيخ أروكا» وقسطا كبيرا من أمواله لبشير فى القاهرة حتى يخمد هذه الدعاية التى تكاد تقضى على مصالحهم، غير أن الطرف الآخر وهو سلطات الأمن لا تلبث أن تكشف عن أنيابها، فقد كانت القرية بالنسبة لهم نقطة ارتكاز مهمة، حيث يتحرك فيها أشخاص يمكن أن يدخلوا كل بيت فى مصر، بل خارجها، لا يخفى أحد مصائبه عن هؤلاء الناس المباركين «على مدار سنوات، كنا نستعين بأهل دجا لنشر فكرة أو لدخول بيت، هل تصدق أن أعتى رجال الأعمال يقولون أمام شيخ من دجا ما لا يقولون أمام وزير الداخلية»، ويضيف المسؤول الأمنى: «كنا نختار واحدا يلقى الطعم لمن نريده، يخبره أنه يعانى من سحر أو من عمل سفلى أو حتى يحتاج إلى البركة، كان كل شىء يسير على ما يرام.. لكنها الآن أصبحت صداعا للأمن»، لهذا يقررون حرقها بإشعال الصراع بين أهلها لينشئوا قرية جديدة على أنقاضها ويتبخر سحر الأسطورة من مؤامرة إنجليزية لتسويغ الاحتلال إلى شائعة ريفية عن طوفان الخزان والسد العالى، ويجعلها الجد عثمان وسيلة لبسط نفوذه وكراماته ولعناته إلى حالة إعلامية موهومة، ثم ينتهى بها الأمر لتصبح أداة فى يد الأمن كما كانت دائما يحركها لأغراضه ويتلاعب بالأسياد الموهومين والحقيقيين من الجان والبشر تغذيهم المصالح والخرافات، فتبدو الرواية شديدة البناء الهندسى والأيديولوجى، محكمة فى حبكتها، بالغة الطرافة والتشويق فى نماذجها ومواقفها التى تحبس فيها الأنفاس، واضحة الرسالة فى دلالتها الإبداعية والفكرية، وإن كانت من هذا النوع الذى يستنفد رحيقه فى القراءة الأولى لخلوها من التأملات العميقة والأبعاد الإنسانية الكاشفة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية