x

محمد المخزنجي صائمون ضد التيار محمد المخزنجي الخميس 25-06-2015 12:00


فى صباح العاشر من أكتوبر 2010 شهد الطريق إلى ضفاف مصب نهر «آدمز» بمنطقة شسواب بمقاطعة كولومبيا البريطانية الكندية المطلة على المحيط الهادى حركة كثيفة من الباصات والسيارات تنقل عددا من السياح أتوا من جميع أنحاء العالم كما من مختلف أرجاء كندا لمشاهدة أكبر عرض حاشد لأسماك سلمون «السوكى» سُجِّل فى التاريخ، ما يُناهز تسعة ملايين سمكة سوكى حمراء طول كل منها يفوق نصف المتر كانت تقترب مع دخولها ذلك النهر من آخر مراحل دورة حياتها، وهو عرض نادر ومُذهل، ولا يتكرر إلَّا كل أربع أو خمس سنوات، وندرته وإذهاله لايتأتيان فقط من المشهد المهيب لسرب الأسماك الحمراء حمرة أرجوانية وهى تدخل النهر شفاف المياه، مصارعة تياره الهابط نحو المحيط بينما هى تصعد ضد التيار مستهدفة المنابع القريبة من القمم التى ذابت عنها الثلوج، ولكن الإذهال كان ولايزال يتأتَّى من ربط هذا الاندفاع الملايينى الحاشد لتلك الأسماك مدهشة اللون والشكل والإصرار، بما هى ذاهبة إليه وما ينتظرها بعد إتمامه. وبرغم المشهد الطبيعى الساحر للتلال الزُرق والوديان الخضراء المرصعة بذهبية وبنفسجية وقرمزية الخريف التى ترسمها غابات شجر البتولا والصنوبر والسرو والشوح والتى لا نظير لها فى العالم إلا فى أجزائه الشمالية المارة بخط العرض ذاته، فإن السيارات والباصات راح راكبوها يغادرونها بتشوق وتشوُّف لمتابعة الدخول الأسطورى لملايين أسماك السلمون الحمراء ذلك النهر الذى يجرى، عند نقاطه الضيقة، تحت جسور خشبية ومنصات على الضفاف، هُيئت جميعها لتيسير مشاهدة الأعجوبة للقادمين.

■ زحف أحمر تحت السطح

بشر عاديون وعلماء أحياء وبيئة، كثير منهم أتى بصحبة أسرته كاملة حتى الأطفال ومعهم حيواناتهم الأليفة، وبرغم أن آلاف القادمين كانوا يحاولون التحادث همسا، كما تقتضى آداب هذا النوع من المشاهدة، سواء فى برارى أفريقيا أو محميات آسيا أو أروبا، لعدم إزعاج الكائنات البرية وإرباك إيقاعها الطبيعى الحيوى، فإن أصوات الأطفال الذين لابد أنهم هُيئوا لما سيشاهدونه كانت تخترق وشيش الهمس، زقزقات صافية جميلة، تتعجل ظهور ماوُعِدوا بمشاهدته. وما أن تبدَّت بوادر موكب القادمين من قلب المحيط إلى فوهة النهر رائق المياه عنيف التيار والضحل برغم ذلك، حتى تهللت أصوات الأطفال:«لقد أتوا لقد أتوا هاهم هاهم. إننى أراهم. لونهم أحمر. أحمر خالص»، ولم ينجح الآباء والأمهات فى دفع أطفالهم إلى الصمت بينما الأطفال يتجادلون حول أى نوع من الأحمر ذلك الذى يهلُّ به القادمون من بعيد، تحت سطح الماء الرائق:«أحمر تفاح. لا أحمر دم. برتقالى. أحمر فضى. هو أحمر فراولة». فقط، عندما ارتفع صوت مصارعة حشود القادمين لتيار الماء الجارف، وبدأ تحت المنصة مرورهم العجائبى وهم يصعدون إلى أعالى النهر، انقطعت أصوات الأطفال انبهارا وتجمد همس الكبار انشداها، سكتت عوالم البشر بكل ضجيجها، فالفطرة الأنقى والأكثر إدهاشا وحدها كانت تتكلم. كلاما وراءه كلام وأمامه كلام، فى عمقه كلام وعلى سطحه كلام، كلام بلا كلمات لكن كله بلاغة، ولا لغة فيه إلا لغة الفطرة الأولى التى فطر الله الناس والكائنات عليها.

■ أكثر من مهمة وجودية

هذا السرب الملايينى الأحمر المار تحت جسور وشرفات نهر «آدمز» لم يكن إلا نوعا واحدا من ثلاثمائة نوع من أسماك «السلمون» أو «سمك سليمان»، وللتيسير المعرفى فإن أسماك السلمون جرى اختزال تصنيفها للعموم إلى نوعين: أسماك سلمون المحيط الأطلسى، وأسماك سلمون المحيط الهادى، والعرض المذهل تحت شرفات وجسور نهر آدمز كان من النوع الأخير، وبرغم أن النوعين كليهما يتسمان بنوع من الهجرة الأسطورية، يعودان فيها من مهجرهما الطويل الوفير فى المحيطين، ليتزاوجا ويتناسلا ويُفرِّخا صغارا فى منابع الأنهار ذاتها التى رأيا فيها النور لأول مرة، إلا أن سلمون المحيط الهادى، ذلك الأحمر القانى الذى أخذت حشود أفواجه تدخل نهر آدمز الكندى فى ذلك اليوم من عام 2010، كان لا يؤدى مهمته الوجودية العظمى بتلك العودة إلى أنهار نشأته الأولى ثم يقفل راجعا إلى المحيط ليكرر العودة كما يفعل سلمون الأطلسى، بل يعود بلا رجوع، فهو يموت فى الأماكن نفسها التى خرج فيها من البيض ورأى النور، عقب إيداعه لذريته فى أحضان الأماكن ذاتها.

■ عودة لحياة وموت

ولاسمكة واحدة من أسماك سلمون المحيط الهادى رجعت إلى مياه المحيط بعد هذه العودة إلى مياه الوطن، بل بقيت لتموت فى حضن تياراتها الأم، فى تراجيديا خلابة الشجن لواحد من المصائر الكبرى للكائنات فى مواكب الحياة على كوكب الأرض، لم يتوقف الكاتب كما غيره عن تأملها منذ سنين، ولا تزال تُكتشَف فيها خبايا وراء الخبايا، تبعث برسائل من الحكمة والموعظة الحسنة، لمن أراد موعظةً تكفيه وحُسنا ينجيه. يُنجيه من قبح التمادى فى الجنوح المُجافى لسوية الفطرة تجاه الأوطان. وهى رسائل كبرى، من الطبيعى أن تكون استهلالاتها كُبرى كذلك. وها هو أحد علماء دراسة الأسماك، يُدعَى«ى. ف. برافيدين»، يصف طليعة مشهد العائدين من سلمون المحيط الهادى إلى أحد أنهار اقصى الشمال الشرقى فى روسيا الذى يصب فى المحيط الهادى، يرصدها ببصر إنسان عادى مدهوش، وبصيرة عالم تزيده المعرفة دهشة على دهشة، وهو يشير إلى هذا السلمون الأحمر كما يسمونه فى شمال الشرق الأقصى الروسى «سمك الغوربوش»، أى معقوف الفكين، وهو معقوف الفكين حقا، لكن لدى الذكور الناضجة فقط، وفقط يظهرأنعقاف فكوكها فى رحلة العودة، وهى صفة مُكتسبة عجيبة، من أعجب أعاجيب رحلة هذا السلمون العائد إلى وطنه، وتتعلق ضمن ما تتعلق به، بالصوم.

■ كماءٍ يغلى فى قدرٍ كبير.

يصف بريفيدين المشهد فى نهر كامتشاتكا، وهو نظير مثيله فى نهر آدمز، وإن كان على الساحل المقابل بأقصى شمال شرق روسيا: «كان الجو هادئا والطقس مشمسا. وكانت التيارات المائية المتلاطمة تبدو وكأنها تلعب لعبة جماعية تشوش من وقت لآخر السطح المائى المنبسط فى الأماكن الضحلة من النهر. وفجأة صدرت ضجة من تحت الماء تُذكِّر بصوت مياه تغلى فى قدر كبير. كنا نُسرُّ ونحن على الشاطئ بمنظر أسماك الغوربوش وهى تندفع فى النهر وكأنها تيار مائى قوى، يبتعد شيئا فشيئا بالاتجاه المعاكس لتيار النهر. كان طول الفوج لا يقل عن ألف متر، وعرضه لا يقل عن مائة متر، بحيث يمكن القول إنه كان يحتوى أكثر من مليون من أسماك الغوربوش حمراء البطون». بطون حمراء وفكوك معقوفة، كانت تلك أول علامات عناء الرحلة الطويلة البالغة ما يقارب 4000 كيلومتر من داخل المحيط الذى مكثت تعيش فيه لما يقارب الثلاث سنوات، إلى فوهات الأنهار التى تعود إليها، عودة كبرى بلا رجعة، تمتد مظاهرها أو مظاهراتها المليونية، من شواطئ كاليفورنيا الأمريكية صعودا إلى شواطئ كولومبيا البريطانية الكندية من جانب، وشواطئ شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية من الجانب المقابل. عودة ذات فتون وشجون، وربما جنون! جنون العودة إلى الأوطان.

■ ذرية تختزن موروث الأجداد

أسماك السلمون كلها فى الأصل أسماك نهرية، لكنها منذ العصر الجليدى الأخير، كما يقول عالم البحار «فاركاسهنريك» فى كتابه الجميل «الهجرات فى عالم الحيوان»، أخذت تقوم برحلات بحرية وبدأت تتكيف مع المياه المالحة، مما يعنى أنها غيَّرت نمط حياتها الموروث منذ فترة لا تُعتبر طويلة بالمقياس الجيولوجى، وتُعدُّ ببضعة آلاف من السنين، لكن هذا التكيف المُكتسب كان لا يستطيع الصمود أمام مورث ذرية هذه الأسماك، فبيض وأفراخ السلمون ظلت تحتاج إلى شروط بيئة أسلافها الأصلية، من مياه نقية وعذبة ومُشبعة بالأكسجين الحر. وبأقوى الدوافع الفطرية للحفاظ على استمرار النوع فى الحيوان، كما الإنسان قبل أن تتشوش أو تتشوه فطرته، وبشكل يكاد يكون ضاغطا ولا شعوريا وحقيقيا إلى ما لا نهاية، يَصدُر قرار خفى، وعجائبى فى شموله لملايين أسماك السالمون الناضجة دفعة واحدة، وفى وقت واحد: آن أوان العودة.

■ صومٌ فطرىٌ شامل

رحلة العودة هذه تطول آلاف الكيلومترات، يكون سلمون المحيط قد تهيأ لها بنهم يجعله يضاعف من وزنه فى غضون أسابيع قليلة، مُختزنا وقود السفر الشاق الطويل من وفرة الغذاء فى البحر، وقبل أن يدخل إلى نهره الأم، تكون نسبة كبيرة من مُدخرات الطاقة فى جسمه قد ذابت، وتكون كل قشوره الفضية البراقة قد تلاشت، وأخذ جلده العارى يزداد سُمكا وصلابة مكتسبا اللون الأحمر القانى بتكاثف، وهذا تغيُّر تشترك فيه الإناث كما الذكور، ويزيد على الذكور تغير مُروِّع فى شكله، منطقى وشجى فى جوهره، فالذكر تظهر له حدبة على ظهره ترفع زعنفته الظهرية عاليا وكأنها شراع، ويلتوى فكاه معقوفين حتى لا ينطبقا، وتطول أسنانه وتبرز خارج الفكين، مما يعنى أول ما يعنى أنه لن يستطيع الأكل بهما بعد هذه اللحظة، وكلها ترتيبات فى برنامج عظيم التصميم للمصمم الأعظم، فالشراع العالى الذى صارت تمثله زعنفة الظهر التى رفعتها الحدبة المُستجَّدة، مؤشرٌ للكفاءة يُعين الأنثى فى اختيارها للذكر الذى سيخصب ما سوف تضعه من بيض، أما الفك المعقوف وحشى المظهر، فهو بقدر ما يصيرُ عتاد مصارع فى مباريات التنافس القادمة بين الذكور على الإناث، بقدر ما يؤكد شمول الصوم الذى يرين على الجميع طوال رحلة العودة الأسطورية هذه، فالصوم حتمٌ فى الجزء النهرى منها بخاصة، فلا وقت للانشغال بالطعام فى خضم الصراع ضد التيار وعوائق الصعود، فمن يبطئ تتخطفه مخالب النسور المحومة فوق النهر أو تمزقه أنياب الدببة المُخوِّضة فى الماء. وثمة بُعدٌ جميل يلوح للكاتب فى هذا التشوه الوبيل لفكوك ذكور السلمون الأحمر: إنه يُبقِى مباريات التنافس بين الذكور على الإناث فى حدود «القتال الطقسي» المعروف فى عالم الحيوان، والذى لايتحول على الأغلب الأعم إلى قتل لدى سائر المخلوقات الفطرية، فلا واحد منها يقبل بقتل أخيه مهما حمى وطيس التنافس. يكتفى المنتصر ببوادر انتصاره، ويمضى المهزوم مُعلِنا خسارته، مُدركا أن أرض الله واسعة ودوره فى الحب آتٍ. فلعل تشوه فكى ذكر السلمون الأحمر بقدر ما ييسر له وخزات أو طعنات من أسنانه البارزة يُسدِّدها لغريمه، بقدر ما يمنع هذا الفك الذى لا ينطبق من نهش صاحبُه قطعةً من لحم أخيه ــ فى النوع، وفى الأصل، وفى الوطن ــ لن يستطيع أكلها، فيستمر فى الصوم. ونستمر نحن...

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية