x

محمد المخزنجي الندى القاتل محمد المخزنجي الخميس 11-06-2015 11:47


المُولَعون بمشاهد القتل فى حدائقهم لا يمنحونه فرصة للتوبة

يمتلئ الإمبراطور بقوته ويزهو ببهائه فى ضوء الشمس الصاعدة، ولا يجد ما يليق به فى المدى المضىء غير ندى الشمس، فينطلق نحوه غير مدرك أن فى هذا الندى رَدى!

ساعة ذكية بشاشتين

إنه إمبراطور اليعاسيب التى هى أجمل الحشرات غشائية الأجنحة. يسميها البعض «الرعاش» لأزيز مرتعش لا تكف عن إصداره عندما تحط على فرع نبات خفيض أو شجرة عالية. لكن تسميته من قِبل آخرين «أبو الغزال» تقترب من شكله العام أكثر. وهى تسمية تثير الدهشة: كيف للقريحة الريفية أن تلتقط التشابه بينها وبين الطائرات العمودية من نوع الغزال GAZELLE HELICOPTR جسم بيضاوى لطيف، وذيل طويل رشيق، وعِوضاً عن مروحة الحوامة تخرج من أعلى الصدر أربعة أجنحة طويلة انسيابية شفافة. كأنها خُلِقت شفافة حتى لا تُخفى ألوان اليعاسيب الزاهية التى تكاد تكون بلا حصر. ويمتاز بينها الإمبراطور بلونه الأزرق ذى البريق المعدنى الألَّاق، أما عيناه الكبيرتان كنصفى كرتين مرصعتين بمئات البلورات فما هما إلَّا عينان مُركبتان تنتظم فيهما مئات العيون الدقيقة تجعله يرى من كل الاتجاهات ويُصعِّب اصطياده أو افتراسه. لكن ذلك البهاء وتلك القدرة لا يصمدان أمام جفاف المصطلحات العلمية التـى تسمى اليعاسيب جميعاً: «ذبابات التنين»، ويأتى الإمبراطور على رأسها EMPEROR DRAGON FLY. فهو الأكبر والأجمل. المسافة بين أطراف أجنحته المتقابلة خمسة عشر سنتيمتراً. وطول جسمه من الرأس إلى الذيل يقارب ذلك. كائن فخم يلتهم طعامه من الحشرات الطائرة الأخرى وهو طائر. لكنه وهو يحوِّم حول ذؤابات البوص والشجيرات الضامرة فى أرض المستنقع يعثر على ما يليق بفخامته. نبات بهى الطلعة ترقص أوراقه الطويلة الرشيقة رقصة وئيدة مغوية، وتترصع قدودها المياسة بتألق حبيبات صافية تُداخِلها حمرةٌ أصفى تتوهج فى ضوء الشمس.

أوراق نبات «ندى الشمس» تتألق بشعاعات تحمل نقاطاً توحى بأنها عسلٌ مُصفَّى

يقترب الإمبراطور فيبصر على ظاهر الأوراق الخضراء الراقصة احتشاداً من شعيرات نباتية تحمل على رؤوسها تلك الحُبيبات الصافية المؤتلقة. قطرُ ندىً عجيب فاتن ينادى الإمبراطور أن يقترب. ويُعزز النداء أريجٌ فواح يدوِّخ الرأس الإمبراطورى ذا الألف عين فى عينيه فلا يرى غير هذا الندى. وكما حوامة «جازيل» يهبط الإمبراطور عمودياً فيرتعش فور أن تلمس أرجُله حبات الأريج والألق، لا ارتعاشه المعهود، بل ارتعاشَ مباغتةٍ وتوجُّس. لقد أمسَكَت بأقدامه الدقيقة مادة صمغية كثيفة القوام لم يتوقع أن يتورط فى مثلها. يرتج ملوحاً بذيله الطويل ليُقلع فيحس بتماسك المادة الصمغية حول أرجله. يلجأ إلى آخر أدوات صعوده بعيداً عن مصيدة الصمغ تحته فتورطه هذه الأدوات فى الفخ أكثر. فتحريك أجنحته الأربعة الرقيقة الشفافة يجعل أطرافها تعلق بندى الشمس. يحاول الرفيف بقوة فيغوص فى غَيابة الأسر. وبآخر ما فى كيانه من طاقة يرتعش وينبض ظاناً أن ذلك الارتعاش وذاك النبض ينجيانه. لكن هيهات، فجسده المُنهوك يهمد ساكناً، ومع أول ثانية من سكونه تباغته الورقة الطويلة الخضراء ملتفةً عليه كما تلتف سجادة على خبيئة.. سجادة مفترسة!

يُصنَّف نبات «ندى الشمس» SUNDEW ضمن طائفة شاذة من النباتات تُسمى النباتات اللاحمة CARNIVOROUS، وهى كما وحوش الثدييات اللواحم توقع بطرائدها، وما إن تتمكن منها حتى تبدأ فى التهامها بطريقتها الخاصة. فبعد الإيقاع بالفريسة فى الفخ الصمغى وضمان التمكن منها تحدث تغيرات للسوائل فى نسيج الورقة تجعلها تتحرك بضغط الماء «هيدروليكياً» فتلتف على نفسها. وفى خِباء اللفافة تقوم الشعيرات نفسها التى أفرزت الحبيبات الصمغية بإفراز إنزيمات هضم كاوية تُذيب ما فى الفريسة من بروتين. ثم تعمل غدد خاصة فى ورقة النبات على امتصاص حساء البروتين هذا حتى آخر قطراته. فالنبات المفترس لا يعرف متى تتاح له فريسة جديدة يمتص بروتينها الذى يحصل منه على شرط استمراره فى الحياة: النيتروجين!

تأقلُمٌ عمره ملايين السنين منذ بدأت هذه النباتات رحلة نموها فى تربة تفتقر إلى مركبات النيتروجين كالمستنقعات الحمضية والأراضى البور. فبرغم وجود النيتروجين بوفرة تصل إلى 78% من مجمل هواء الأرض إلا أن أغلب الأحياء، ومنها النباتات، لا قدرة لها على الاستفادة منه فى شكله الغازى، بينما النيتروجين لا غنى عنه لتكوين البروتينات فى الكائنات الحية؟ نحن وسائر الحيوانات نحصل على ما نحتاجه من نيتروجين عبر البروتينات التى نحصل عليها من أكل النباتات والحيوانات التى تأكل النباتات. فمن أين تحصل النباتات على ما تحتاجه من نيتروجين لبناء بروتيناتها؟ مصدران يمنحانها النيتروجين بعد اتحاده مع عناصر أخرى لتكوين مركبات نيتروجينية تستطيع الجذور امتصاصها. المصدر الأول هو النشادر المتخلف عن تحلل المواد الحيوانية والنباتية الميتة فى التربة. والمصدر الثانى هو المركبات النيتروجينية التى تكونها بكتيريا وطحالب خاصة فى التربة الخصبة بعد الحصول على نيتروجين الهواء وتثبيته فى تلك المركبات. فماذا يفعل نبات لا يجد هذا ولا ذاك ليحصل على احتياجه من النيتروجين لبناء بروتيناته وأهمها اليخضور؟

إمبراطور اليعاسيب تجذبه دعوة نبات ندى الشمس على ما يبدو عسلاً فيسرع طائراً لينهل

واليخضور أو الكلوروفيل هو نظير اليحمور أو الهيموجلوبين فى دمائنا. ومثلما لا نستطيع الحياة بغير هيموجلوبين يعجز النبات عن الحياة بلا كلوروفيل. وبموت النباتات يمكن أن تنتهى الحياة على وجه الأرض. فالنباتات هى غذاء الحيوانات المُعشبة والحيوانات المعشبة هى غذاء الحيوانات اللاحمة أما نحن فنأكل العُشب والمُعشِب، واللاحم أحياناً! هذه السلسلة الغذائية كلها تبدأ عند الكلوروفيل فى أوراق النبات الخضراء. يمتص الكلوروفيل الطاقة من ضوء الشمس ليبنى غذاءه ذاتياً عبر سلسلة من العمليات تبدأ بتفكيك جزيئات الماء إلى أكسجين وهيدروجين. يطلق النبات الأكسجين فى الجو ويأخذ ثانى أكسيد الكربون ليختزله بالهيدروجين مكوناً الهيدروكربونات التى تكتنز الطاقة فى شكل سكريات. لكن البروتينات وعلى رأسها الكلوروفيل تبنيها النباتات العادية من مغذيات التربة الخصبة المُغتنية بمواد ذات محتوى نيتروجينى. أما النباتات التى لا تجد ذلك فى تربتها فليس أمامها سوى اقتناص فرائس حية تستخلص من لحمها الشحيح بروتيناً يمنحها النيتروجين لتبنى بروتيناتها الخاصة. وهى تذبل إن عجزت عن الاصطياد لثلاثة أيام متوالية!

للنبات الفاتن المفترس عنقود زهور بديعة تتفتح بالتتابع طبقاً لسقوط الشمس عمودية على كل منها

لو كان نبات ندى الشمس يستطيع الحديث لقال لنا بعتاب إنه إذا زُرع فى أرض تمنحه النيتروجين فى أى صورة سائغة لكف عن إفراز ندى الردى الذى يصطاد به، ولكف عن إفراز إنزيمات القتل الهاضمة لضحاياه. لكن البشر المولعين بمشاهد القتل وهم يقتنونه فى حدائقهم وفى صناديق الزهور على عتبات نوافذهم وأفاريز شرفاتهم لا يمنحونه فرصة للتوبة. يواظبون على زراعته فى تربةٍ عاقر ويسقونه بماء مقطر حتى يضمنوا كامل حرمانه من أى مصدر للنيتروجين، ليدوم تلذذهم بمشاهد الافتراس التى يتحول فيها إمبراطور بهى التكوين خلاب الزرقة إلى هفوة من رمادٍ أسودٍ مُنطفئ.

ولأنه لا يعرف الكلام فهو يدافع عن نفسه بملمح نادر يومئ لنا بأن لديه فتونه برغم شجونه. فزهوره ساحرة الألوان تنتظم فى عناقيد، كل عنقود منها يحمل عدة زهور تنتظر الشمس لتؤدى عرضها الآسر. تتوالى واحدة بعد أخرى فى التفتح ثم الانغلاق وكأنهن حوريات يرقصن على مسرح الضياء فى تعاقب، بحيث تنال كل منهن دورها فى تصدُّر المسرح وتحت بقعة الضوء المُركَّزة.

فهذه الزهور لا تتفتح إلا إذا سقطت على كل منها أشعة الشمس عمودية تماماً، فكأن هذه الأشعة أصابع عازف تلمس مفاتيح هذه الزهور لتصدح، وصدحهاـ برغم وحشية أصولها ـ رقصة فى الشمس، وبالشمس.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية