في عام 1976 قدم عبدالحليم حافظ أغنية «قارئة الفنجان»، وكانت آخر أغنياته إلى الجمهور، لأنه رحل في آخر مارس من العام التالى.
وعندما وقف عبدالحليم يؤديها أمام جمهوره في المسرح، فوجئ بحوالى عشرين شخصاً يقومون من أماكنهم، من لحظة لأخرى، ويصفقون، ثم يطلقون الصفارات، وكان الواضح أمام عبدالحليم يومها أنهم لا يفعلون ذلك إعجاباً بأدائه أو بالأغنية الجديدة، كما جرت العادة في مثل هذه الأحوال، وإنما كانوا قد جاءوا عن قصد، وكانوا يفعلون ما يفعلونه عن عمد، لإفساد الأغنية وإفشال الحفل!
أمهلهم العندليب الأسمر مرة بعد مرة لعلهم يسكتون، فتمادوا في الشغب، فلما ضاق به الحال، خاطبهم من فوق المسرح بشىء من الغضب، وقال لهم ما معناه إنه هو الآخر يستطيع أن يطلق الصفارة إذا وضع أصبعيه في فمه، وإنه يستطيع أن يجاريهم فيما يفعلون، وأن يتفوق عليهم فيه، لولا أن ذلك سوف يكون على حساب حفل غنائى عام واجب الاحترام، وعلى حساب أغنية صعبة الكلمات تحتاج إلى هدوء شديد ليتذوقها سامعوها.
وقد قيل وقتها إن المطربة «وردة» كانت وراء العشرين شخصاً إياهم، وإن مناخ المنافسة بينها وبين عبدالحليم قد دفعها إلى التفكير بهذه الطريقة!
وقد قامت الصحافة أيامها على عبدالحليم، لمجرد أنه «شخط» في المشاغبين، ولمجرد أنه قال لهم ما معناه: كفاكم شغباً وتصفيقاً وتصفيرا!
وفى ليلة أول أيام رمضان، أذاعت قناة «صوت الشعب» حلقة من حلقات برنامج «أوتوجراف»، الذي كان الراحل طارق حبيب يقدمه في تلك الأيام.
ضيف الحلقة على مدى ساعة كان عبدالحليم حافظ، وقد راح يدافع فيها عن موقفه، ويبدى دهشته من أن تكون الصحافة في صف المشاغبين ضده، وأن تستكثر عليه أن يحاول وقفهم عند حدهم، وكيف أنه كان من الواجب عليها أن تكون ضد هؤلاء الذين اعتدوا على حق مئات آخرين جاءوا الحفل للاستمتاع بساعة من الطرب الجميل.
لك أن تتصور أن تكون أنت قد قطعت تذكرة، للاستماع إلى أغنية كتبها نزار قبانى، ووضع ألحانها محمد الموجى، ويغنيها عبدالحليم، ثم يأتى من يفسد عليك متعتك بأداء هؤلاء الثلاثة العظام معاً!
ما استوقفنى في حلقة «أوتوجراف» حقاً هو الصدق الذي كان يتكلم به عبدالحليم، فكأن هذه الصفة كانت جزءاً من طبيعته مغنياً ومتكلماً.. ثم استوقفنى الأهم حين راح يشرح لطارق حبيب، أنه كمطرب يظل يعمل على الأغنية الواحدة، من نوعية قارئة الفنجان، عاماً وعامين، وربما ثلاثة، وأن ذلك راجع إلى حرصه التام على ألا يغش الجمهور تحت أي ظرف، وأن الأغنية إذا كانت سلعة، فهو حريص تماماً على أن تصل لمستهلكها كاملة الأوصاف مائة بالمائة.. لا تسعة وتسعين!
أذاعت «صوت الشعب» الحلقة قبل لحظات من إطلاق طوفان من مسلسلات التسول والشحاتة على المشاهدين، وكأن القناة أرادت أن تنبه مشاهديها إلى أن مصر عرفت زمناً، كان المطرب فيه من وزن عبدالحليم، يفضل أن يموت على ألا يغش جمهوره، وكان من فرط ذوقه مع مشاهديه، يستأذن طارق حبيب في أدب بالغ، ليضع نظارته على عينيه، حتى يتمكن من قراءة كلمات أغنية جديدة، كان ينوى أن يغنيها!
غاية القول إن ما كان من صدق في الأداء، على كل مستوى، لا مستوى الغناء وحده، يمكن أن يعود، وبسهولة، إذا ما انطوت دخائل أهل الفن والإعلام على ضمائر حية!