x

أيمن الجندي رمضان الأيام أيمن الجندي الجمعة 19-06-2015 21:40


(4) منذ أن بدأت العمل فى المستشفى كطبيب مقيم صارت أيامى سوداء. أستيقظ مبكرا للوصول للمستشفى قبل مجىء أعضاء هيئة التدريس. أمامى المرور على المرضى الذين لا ذنب لهم. القسم بالكامل يعتمد على العبد لله، ومطلوب منى أن ألاطف سباك المستشفى ليصلح دورة المياه التى بسببها تلقيت «دوشا» من تقريع الرؤساء. هذا من مهام الطبيب المقيم طبعا، ألا تعلم هذا؟

والكهربائى؟ طلبوا منى تركيب قابس جديد وإلا فالويل لى! النجار الوغد لم ينته من صنع الدولاب الذى سنضع فيه المناظير وسوف يعتبروننى المسؤول عن الإهمال والتسيب وحرب الهكسوس بل وحرب الخليج التى نشبت منذ أيام.

وظيفة «طبيب مقيم» هى أسوأ وظيفة فى العالم. مطلوب منك أن تراضى الجميع وإلا لن يوافقوا على تعيينك. أحسد عمال النظافة وأحسد الممرضات. على الأقل لا يهددهم أحد بالثبور والضياع. أعود محطما فى الثالثة عصرا لكنى أعجز عن النوم من جفاف حلقى والإجهاد الفظيع. بمجرد الإفطار أهرع للمستشفى من جديد تاركا ليالى الحلمية وقلبى يتمزق. سليم البدرى يشاكس سليمان غانم. وقمر السماحى محتارة. أما على البدرى فحكايته مع زهرة حكاية!!

الحب لا مكان له فى عالم من الإرهاق وقلة النوم والاكتئاب. صوت عبدالمطلب انطمس من عالمى حتى كأنه لم يكن.

الحياة بنت كلب ولا أستطيع أن أزعم غير هذا. أعدك أيها البالطو الأبيض- يا رمز العبودية- أنى سأحرقك يوم تنتهى فترة طبيب مقيم وسأرقص حولك كالهنود الحمر!

......................................

(5) من فضلكم لا تذكرونى بمصر. لست فى قارة أفريقيا من الأساس، فالخليج الذى أعمل به يقع جغرافيا لا فى قارة أخرى فحسب بل فى مجرة أخرى. أحن لمصر حنينا يهشم الضلوع ويخنق الروح. ولو كان عندى سلطان على عفريت سليمان لقلتها فورا: «ردنى إلى بلادى»..

لم تكن وظيفة طبيب مقيم بالسوء الذى كنت أحكى عنه. على الأقل كنت أستنشق هواء مصر وأشرب من ماء مصر. الآن اكتشف كم أحب هذا البلد الذى كنت ألعنه وأريد الهروب منه. اكتشف الآن كم أحن إلى العنبر المجانى ومريضاتى البائسات من أعماق الريف وتلك السحن الطيبة لعمال القسم. كنت بحاجة أن أبتعد كى أرى. كنت بحاجة إلى الصمت لاستمع إلى لغة الذكريات. صوت عبدالمطلب يتضخم فى داخلى حتى لا أسمع سواه: «رمضان جانا وفرحنا معاه» جاءنا وجاء معه عبير مصر ورائحة الأيام الخوالى. رائحة الغروب فى رمضان والشارع الخالى والشرفة المتسعة والهواء الناعم الذى لا يكف عن تقبيلى.

أفتقد أشياء كثيرة: صوت المؤذن وهو يرفع الأذان على الطريقة المصرية المغموسة فى سماحة الريف المصرى. العمامة الأزهرية الوقورة رغم كونها حمراء. أشتاق لوجه أمى الطيب المبتسم، دنيا من الحنان الفطرى والحب والاتزان.. أبى؟ البقية فى حياتكم. لن أسمع أبدا كلمة التدليل الحلوة (يا حلوة باباها) إلا فى رواق الذكريات.

أسمع صوت أمى عبر الهاتف. ينسكب الصوت مغموسا بالمحبة. لا شىء يبهجها كاتصالى بها، ولا تريد من الدنيا سوى أن ترانى سعيدا. تنتهى المكالمة فأبقى مليا أعتصر السماعة فى يدى عاجزا عن الفعل والتنفس. وبرغم ذلك أيها الشهر الفضيل أرجوك لا تنتهى بسرعة. سيكون العيد مريرا حينما أقضيه وحدى. ثلاثة أيام دون أن أحدث أحدا هو شىء لا أتحمله.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية