(6)
لماذا يا رمضان تظهر لى بوجه عابس مختلف؟
سأصارحك بكل شىء ولتكن أنت حكماً ما بينى وبينك. أمى مريضة مرض الموت. ثمة غصة في القلب وصرح هائل على وشك الانهيار. فيما بعد سيحدث شىء لا يصدق. ليلة دفنها سأستيقظ في الصباح، وأمر على بيتها فإذا بى أجد المسجد المقابل لبيتها، مسجد طفولتى، قد تمت إزالته تماما أثناء الليل، وكأنما أزاله عفريت سليمان! هل سمعت يا رمضان عن مسجد يُزال بالكامل وتُنقل أنقاضه خلال بضع ساعات؟ ذهب الجامع وذهبت أمى في ليلة واحدة..
أمى تتظاهر بالجهل بطبيعة مرضها لكيلا يكون الفراق مؤثرا. السيدة المهذبة التي أدهشت الكل بدماثة خلقها توشك أن تغادر الحياة. تقول إن الموت علينا حق وهى قد أدت رسالتها على خير ما ينبغى إن شاء الله خلال عمرها السبعينى! تقول إن الحياة رحلة لا بد أن تنتهى حتى لو كنا لا نريد ذلك! طيب يا رمضان. ولكن ماذا تقول عما حدث لأخى ياسر في رحابك؟ تصور أنك مثلى يا رمضان تؤدى عملك في المستشفى خالى البال من شؤون الحياة وشجونها، حينما تتلقى اتصالا هاتفيا يقول إن أخاك سقط في غيبوبة مفاجئة!
أخلع البالطو الأبيض في عجل وأهبط الدرج في ثانية لأجرى في الطريق كالمجنون مقتحما السيارات المسرعة وفى داخلى شىء يعلم أنها النهاية!
تصور يا رمضان كمّ الذكريات المحزنة وأنا أنحنى على أخى وأحمله إلى المستشفى أمام عيون أمه الملتاعة. تصرخ يا ولدى ثم تتهدل كزهرة خريفية. بعد سبعة أيام تصعد روحه إلى بارئها وأهبط أنا في عتمة القبر درجة حاملاً جثمانه، ثم لا أعود أبدا من رحلتى. ألقى السلام على أبى المسجى في سلام عميق متصل منتظراً أن ينادينى بالكلمة الحلوة (يا حلوة باباها) لكنه -لا أدرى لم- لا يقولها.
يعود جسدى إلى العالم الصاخب من أجل أمى التي فقدت ابنها المحبوب على حين غرة. أواسيها بالقبلات تارة وبالبكاء تارة. وهى في صمتها الذاهل عن البكاء والقبلات..
لهذا ترانى عاتبا عليك متسائلا عن معنى العيد في نهايتك؟ هل مطلوب منى أن أفرح يا رمضان؟
(7)
«رمضان جانا وفرحنا معاه». ما زال يغنى عبدالمطلب.
تأتى هذا العام وأنا في حال يرثى لها بصراحة.
ملابسى ممزقة. حذائى ضائع. دموعى حاضرة. قلبى مثقوب برصاص الذكريات. تكدست النصال على النصال يا رمضان.
الشعر الأبيض ينتشر بسرعة مخيفة. أصدقائى كل منهم في واد لكننى واثق أنهم سيمشون في جنازتى.
ليس لرمضان القديم أثر في وجدانى سوى صوت عبدالمطلب يصافحنى «رمضان جانا».
أعرف أن رمضان جانا ولكن بوجه غير الوجه القديم. لذلك لم أرد على رسائل التهنئة التي وصلتنى. كرهت الرسائل وكرهت التهنئة وكرهت نفسى.
والحل يا رمضان؟
سأقضى وقتا أطول في الحدائق دون أن تكتسى روحى بسلام اللون الأخضر..
سأراقب العصافير دون أن تحلق روحى معها...
سألتهم الكنافة دون أن أتذوق حلاوتها...
سأحاول أن أجد سلام نفسى الضائع..
رمضان: مشهور أنت بالكرم. فاغمرنى بكرمك في زمن أحتاجه أكثر من أي وقت مضى.
ما زال عبدالمطلب ينشد بصوته الخشن الرخيم: «رمضان جانا وفرحنا معاه»..
حقاً جئت يا رمضان ولكن!!
أين.. أين الفرحة؟