الذين يُجيزون الغِناء يفوقُون الحصر، سواء كانوا فى أيام الصَّحابة، أو فى أيام التابعين، أو من جاء بعدهم، إذ العارف بتاريخ الإسلام يدرك أنه كان هناك مُغنون ومُغنيات فى عهد النبوَّة، وزاد عددهم وعددهن فى عهد الصحابة.
وعلينا أن نقول باطمئنانٍ إن الاستدلال بإجماع العُلماء فى مسألة الغناء والموسيقى أمرٌ غير مُجدٍ لأنه مجافٍ للحقيقة، وغير مقنع من الذين يُحرِّمون الغناء والموسيقى فى أيامنا هذه، أيًّا كان مذهبهم، وهم عندى مُجرَّد مثيرى فِتن لا أكثر، لا يبتغون صلاحًا ولا إصلاحًا، ويريدون دعايةً لا دعوةً، لأنَّ أغلبهم- بالفعل- لا يرقى إلى مستوى العالِم العارف، أو الفقيه الفاهم الدارس، وليس من بينهم علَّامة، يمكن للمرء أن يطمئن إلى اجتهاده، ومن ثم يستطيع أن يجادله بالحُجَّة والدليل.
والقاعدة كما هو معروف ومستقر فى الأذهان هى إباحة الغناء فى كل العصور بدءا من النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- وحتى آخر شيخٍ مستنيرٍ قارئ لتراثه، عارفٍ بدينه، لا يبتغى مطلبا ما من وراء فتواه. إذْ ماذا نقول- مثلا- فى عبدالله بن الزبير (2 هـ - ٦٢٤ م- 73هـ - ٦٩٢ م) وهو صحابىٌّ، وابن صحابىٍّ هو الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبى بكر الصديق، الذى كان فى بيته جوارٍ يعزفن على العُود، فدخل عليه ابن عمر بن الخطاب، ورأى بجواره عودًا، فقال له: «ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه، فتأمَّله ابن عمر، فقال: هذا ميزان شامى؟ قال ابن الزبير: يُوزَنُ به العقول».
كما أن مذهب الإمام مالك بن أنس (93هـ - 715م - 179هـ -796م) يُبيح الغناء بالمعازف، أى مصحُوبا بالآلات الموسيقية، ولم يكن هناك خلافٌ بين أهل المدينة فى مسألة إباحة العود أو عدم إجازته، كما أن بعضًا من الشافعية (نسبة إلى الإمام الشافعى 150 هجرية - 204 هـ / 767 ميلادية - 819 م) يُبيح العُود.
وهناك عدد كبير من العلماء والفقهاء والأئمة قد جزمُوا بالإباحة، وحلَّلوا سماع الموسيقى، وهذا يؤكد أن الدين الإسلامى دينُ يُسرٍ لا عُسرٍ، ولكن يبدو أن الذين يفقهون القواعد الدنيا فى الدين قد اختفوا، أو وضَعُوا على قلوبهم أقفالا، وصَمُّوا آذانهم، وذهبوا نحو التشدُّد والتزمُّت والتنفير.
إن الموسيقى عندى معروفٌ، ينبغى أن نأمر به، لأنها تصفِّى وتنقِّى وتحمى، وتثقِّف الرُّوح، وتجلو النفس، وتُرهِف الوجدان، وتُذهِب الحُزن، هى من الطيبات التى تحِلُّ لنا، ولم تكن أبدًا من الخبائث المُحرَّمة، أو مفسدة من المفاسد.
وأى تحريمٍ للموسيقى والغناء، ليس من الشرع فى شىءٍ، إذْ فيها منافع وأدواء للقلب، والنصوص التى تُجيزها صريحة، ولا تحتاج إلى تأويلٍ أو تفسيرٍ أو شرحٍ، ولكنَّ المنوطَ بهم تعريف الناس بصحيح دينهم لا يعلمون، أولا يعرفون إلا القشُور، أو ينشرون مذهبًا ما، عماده التحريم والتجريم والتكفير والتشدُّد، لأنه من غير المعقول أن نترك رُخَصًا منحها الله ورسوله لنا ثم يأتى هؤلاء، ليضيِّقُوا ما وسَّع الدين وأباحه.
والموسيقى- بشكلٍ عام- ليست أمرًا مُشتبهًا، كىْ نتقيه، والاشتباه ليس فريضةً، وليس واجبًا دينيًّا، كما أن المسلم ليس هشًّا فى دينه، كى تفتِنَه أغنيةٌ ما أو موسيقى، والأصل فى الأشياء الإباحة كما تقول القاعدة الفقهية، وليس التحريم وعدم الإجازة، وقد حلَّ الله لعباده الطيِّبات، وخلق لهم ما فى الأرض جميعًا، ومن ثم لا يُمكن أن نُحرِّم أمرًا إلا إذا كان هناك نصٌّ واضح صريح مباشر من القرآن أوالسنَّة، وما دام الله سبحانه وتعالى لم يذكر نصًّا فى كتابه الحكيم- القرآن، فلا يحرمن أحد الغناء والموسيقى، لأن الله (لم يكن لينسى شيئا)، (وما كان ربك نسِيَّا) سورة مريم 64.
وتروى السيدة عائشة: «كان فى حجرى جارية من الأنصار- وكانت قريبةً لها- فزوجتُها، فدخل علىَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم عرسها، فلم يسمع غناء ولا لهوًا، فقال: يا عائشة هل غنيتم عليها، أو لا تغنون عليها؟ ثم قال: إنَّ الأنصار قومٌ فيهم غزَلٌ، ويحبون الغناء، ويعجبهم اللهو».
والغناء- عمُومًا- ليس معصيةً بشهادةٍ من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولعلَّ الحديث الذى أورده ابن تيمية (661 - 728هـ، 1263-1328م)، وهو المرجع الأول والأساسى للسلفيين وبعض أصحاب المذاهب المُتشددة، والجماعات المُتزمتة خيرُ دليلٍ على إجازة الرسول للغناء ومعه الخلفاء الراشدون واحدا بعد الآخر فى جلسةٍ واحدة، حيث نقل ابن تيمية عن رواية الإمام أحمد بن حنبل (164 - 241هـ، 780 - 855م) وتصحيح الترمذى (209 هـ - 279 هـ) = (824 م - 892م)، وهو إسناده قوى: «خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إنى كنت نذرتُ- إنْ ردَّكَ الله سالمًا- أن أضرب بين يديك بالدفِّ وأتغنَّى، قال لها: «إنْ كُنتِ نذرتِ فاضربى وإلا فلا» وفى روايةٍ أخرى «أوفِى بنذركِ»، فجعلت تضرب، فدخل أبوبكر وهى تضرب، ثم دخل علىٌّ وهى تضرب، ثم دخل عثمان وهى تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت إسْتِهَا ثم قعدت عليه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنى كنتُ جالسا وهى تضرب، فدخل أبوبكر وهى تضرب، ثم دخل علىٌّ وهى تضرب، ثم دخل عثمان وهى تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدفَّ».
ومما يذكره الرواة عن الصحابة أنهم قالوا إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد رخَّص للمسلمين اللهو عند العرس، كما أنه أباح الغناء من قيْنةٍ (جارية) لزوجته عائشة، وقد رواه النسائى (214 هـ - 303 هـ - 829م - 915م)، ونص الحديث موجود فى «عِشرة النساء» حديث 74.
فهل بعد الرسول وأصحابه وتابعيه وزوجِهِ، وقبلهم جميعًا القرآن، دليلٌ على إباحة الموسيقى والغناء؟
وهل سيكف المُحرِّمُون والمُكفِّرون من أهل السلف الذين يعيشون بيننا عن ترديدِ ما لا أساس له فى القرآن والسنة، ويتركون الناس ينظرون فى دينهم الذى يُيسِّر ولا يعسِّر.
وأليس عند هؤلاء السلفيين مسائل أهم يتأملونها، بدلا من بذر فتاوى التكفير فى أرض من دخلها فهو آمن كما يقول الله عز وجل (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)، (ادخلُوا مصرَ إنْ شاء الله آمنين)، (اهبطوا مصرَ فإنَّ لكم ما سألتم).