كان من الواضح منذ عامين أننا على وشك انغلاق للمجال العام، وسط زعيق نشيد وحدوى يطالب بعدم علو أي أصوات فوق «صوت المعركة».. كان الثمن مقبولا بالنسبة للكثيرين كقربان يقدم في سبيل إعادة الاستقرار وهزيمة تيار سياسى له مرجعية فكرية ذات نزعات شمولية خطرة. وكان هناك رأى آخر يجد في انغلاق المجال العام إضاعة للمكسب المباشر الملموس اليتيم الذي أسفرت عنه تقلبات يناير ٢٠١١ وما تلاها من أعاصير، خاصة أن الحرب ضد الشمولية الدينية تحتاج إلى تجديد وحيوية فكرية لا تزدهر عادة في ظل مناخ عام خانق (وكان ذلك رأيى «فى سبيل إنقاذ المجال العام المصرى»، ٢٦/٠٧/٢٠١٣).
أما هذه الأيام فقد انخفض معيار الانغلاق والانفتاح كثيرا، فصار لا يتعلق بحرية الرأى والتعددية الفكرية والسياسية بقدر ما ينحصر في تطلعات أكثر تواضعا، مثل إمكانية معرفة مصير وأماكن الأفراد الذين «يختفون» دوريا في شوارع وجامعات مصر.. هذه ظروف مخيفة فعلا، وأعتقد أن مصر لم تعرفها منذ عقود طويلة- ظروف تذكرنا بفقرة تتكرر في قصة الكرنك لنجيب محفوظ، حين يتقابل الأصدقاء في المقهى فيلاحظون «اختفاء» أحد أعضاء المجموعة، لكن لا أحد يجرؤ بالكلام عن تلك الحقيقة. الأصدقاء يتبادلون النظرات المذعورة.. والآن، في منتصف العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، نبدو على حافة وضع مشابه، وذلك لابد وأن يعبر عن انتكاسة فادحة في حال المجتمع.
في المقابل، المخيف فعلا أن الحرب التي نخوضها ليست من خيال أو اختراع الأجهزة الأمنية، في سبيل السيطرة والتسلط والقمع مثلا، بل هي حرب فتاكة في حقيقتها.. تصرفات الإخوان وحدها في أعقاب ٣٠ يونيو كانت كفيلة بصعوبة تفادى تلك الحرب؛ أما الآن، وبعد مرور عامين، فالوضع صار أخطر.. مثلا، حسب تقرير ورد في صفحة مؤسسة «جينس»- وهى مؤسسة مهمة في مجال التحليل العسكرى والأمنى، فتصدر مثلا مجلة «جينز ديفنس ويكلى» التي يقرؤها خبراء العسكرية العالميون والسياسيون والدبلوماسيون المهتمون- حسب هذا التقرير فإن هجمات جماعة الإخوان، التي تتجه إلى مزيد من العنف والراديكالية مع مرور الزمن، والتى تدعمها ضمنيا هجمات جماعات الإسلام السياسى المسلحة الأخرى، مثل «بيت المقدس» وداعش، يمكن لهذه الهجمات أن تنهك الجيش حتى حد فقدان قواته لروحها المعنوية، وتتفتت صفوفها.. وذلك خلال بضعة أعوام.
التقرير يأخذ في الاعتبار فقط عملية إنهاك الجيش وليس العكس، كفقدان الإخوان وداعش للروح المعنوية- والأولى للشعبية التي تفتقدها يوميا، والأخيرة لفقدان عنصر المبادرة والهجوم المفاجئ الذي تمتعت به خلال انتصاراتها الأولى في العراق وسوريا.. مع ذلك فالتقرىر مخيف، خاصة أنه يشير إلى أن القوات المسلحة هي القوة الوحيدة التي يمكن أن تحكم مصر حاليا، وإذا انهار الحكم المبنى على أساس ظهرها الصلب فإن الصعود سيكون لجماعات الإسلام السياسى.. ويمكن في هذه الحالة بالطبع توقع صراع فوضوى مدمر بين الأخيرة، من النوع المفزع الذي تابعناه في أكثر من دولة فاشلة.. وأيضا توقع أن أي حكم «إسلامى» آت بهذه الطريقة سيكون مختلفا تماما عن طبعة مرسى وإخوانه، التي ستبدو دون شك شديدة الليبرلية والتحرر والتسامح بالمقارنة.
على الذين لا يريدون هذا النوع من الحكم عدم عرقلة جهود الدولة المشروعة لتفاديه؛ لكن هل ذلك معناه إغلاق المجال العام السياسى والفكرى بالكامل في سبيل دعم المعركة؟ لا أعتقد أن الخلاص يتواجد في ذلك السبيل، إلا إذا سلمنا بأن «المعركة» مستمرة إلى الأبد، وأن خلو الساحة السياسية من قوى مدنية من الممكن أن تحكم مصر- كما أشار موقع «جينس»- هو المكتوب على هذا الشعب أبديا، ربما نتيجة حالة «طفولة» أزلية.. لكن الحكم الذي يعتمد على هذا المنظور لا بد وأن يخسر المساندة طويلة الأمد، النابعة عن اقتناع عقلانى مستقل، لأن من يشعر بأن الطرف الذي يطلب منه المساندة لا يحترمه ولا يمكن أن يقدم مساندة فعالة.
والناس- بمن فيهم «النخب»- قد تعتاد فعلا على النظرة لنفسها في إطار طفولى، فتكون مساندتها قليلة القيمة. وذلك يعنى أيضا أن انغلاق المجال العام بهذه الطريقة التي لم تشهدها مصر منذ زمن بعيد سيترتب عنه عدم استقرار مستقبلى: أي انفتاح «للتبة» سيفسح المجال لفوضى وتخبط من النوع الذي شاهدناه في أعقاب ٢٠١١، لكن مضاعف بالطبع.. حتى إن لم تتحقق تنبؤات موقع «جينس» الأكثر قتامة.
إذا كنا لا نعتبر الحرب الحالية أزلية، وغاية في حد ذاتها، فيجب التحضير لمرحلة الحراك القادمة، فكريا وثقافيا أولا، بما يؤهل المجتمع لمرحلة المسؤولية السياسية.. ذلك لا يفسد «الاصطفاف» في سبيل تأمين البلاد، بل يدعمه.