x

منار الشوربجي النازحون إلى الشمال منار الشوربجي الثلاثاء 09-06-2015 21:42


مأساة إنسانية تتشكل هذه الأيام أمام أعين الجميع هى ذلك النزوح الجماعى من دول الجنوب إلى دول الشمال هربا من جحيم الحروب والعنف والاضطهاد. والمسألة لا تقتصر على قوارب الصيد المتهالكة التى حملت أكثر من عشرين ألفا عبر البحر المتوسط إلى شواطئ أوروبا هذا العام وحده، ولا هى تقف عند حدود مأساة آلاف الروهينجا فى آسيا، فقد سبقتهما مأساة وصول أكثر من 50 ألفاً أغلبهم من الأطفال لشواطئ الولايات المتحدة الأمريكية.

والقاسم المشترك لرد فعل الشمال فى كل الحالات كان القسوة. فبعد أن يغرق من يغرق من الفارين من الجحيم فى عرض البحر، يكون فى انتظار الناجين فى أوروبا وأمريكا وآسيا الغنية مراكز اعتقال لحين البت فى أمرهم. وترفض الكثير من الدول الأوروبية استقبال الناجين على أراضيها وتصر على بقائهم فى الدول المطلة على البحر المتوسط التى وصلوا إليها، وهى التى ترفض بدورها وتقول إنها لم تعد قادرة على استيعاب المزيد. ثم أعلنت أوروبا مؤخرا أنها تنوى استخدام القوة العسكرية للقبض على «شبكات الاتجار بالبشر» وتدمير قوارب الصيد المتهالكة التى يستخدمونها لنقل تلك الأعداد الهائلة. التلاعب باللغة فى تكييف تلك المأساة الإنسانية لا يقل قسوة عن ردود الفعل، إن لم يكن هو المفتاح الرئيسى لتمريرها، فالحديث عن القضية باعتبارها قضية «اتجار بالبشر» يحول المأساة الإنسانية إلى «جريمة» مسؤول عنها فقط حفنة «عصابات» تحول البشر لعبيد، ومن ثم لا بد من مواجهة تلك العصابات فتنحل المشكلة، لكن الحقيقة تختلف كثيرا عن ذلك التكييف. فما يحدث فى البحر لا يمثل «اتجارا» بالمعنى المصطلح عليه. صحيح أن تلك الشبكات المسؤولة عن تهريب النازحين بحرا تستغلهم مادياً وتقوم بإذلالهم بل كثيرا ما تتخلى عنهم فى عرض البحر، إلا أن أولئك النازحين يخرجون من بلادهم بكامل إرادتهم هرباً من جحيم مؤكد فيها لموت محتمل فى عرض البحر يتمنون النجاة منه.

والمسكوت عنه فى كل ذلك هو مسؤولية دول الشمال نفسها مع نخب جنوبية شتى عن ذلك النزوح الجماعى. فبعد عقود طويلة من الاحتلال المباشر والنهب المنظم للثروات، ثم عقود أخرى من الحروب بالوكالة ودعم نظم فاسدة ساعدت على الإفقار المنظم لقطاعات واسعة من البشر فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطى، لا تزال دول الشمال تحقق أرباحا من وراء تسليح كل الأطراف فى الاقتتال الأهلى، وهو السلاح الذى سرعان ما يقع فى أيدى الجريمة المنظمة والعصابات، وكلها تحيل حياة الفقراء قبل القادرين لجحيم يفرون منه للشمال.

ومأساة القوارب المتهالكة هى فقط الوجه الأكثر بؤساً للمأساة الإنسانية فى الجنوب. فأعداد النازحين من الجنوب أكبر بكثير من تلك الآلاف التى تستقل القوارب فى المحيطات والبحار. فالنازحون الذين يملكون التعليم والإمكانات يستقلون الطائرات ويتقدمون بطلبات هجرة تقبل عليها دول الشمال وتتلقفها فيما يمثل هجرة جماعية للعقول والمهارات والمواهب لم يعد أحد يتحدث عنها لأنها لا تمثل إزعاجاً مماثلاً فى دول الشمال كذلك الذى تمثله القوارب ونزوح الفقراء إليها.

ومأساة النزوح الجماعى من الجنوب للشمال مرشحة للتفاقم ما لم يتم مواجهة الجذور الرئيسية للمشكلة، وهى الدمار والخراب الذى صار عنواناً للكثير من دول الجنوب.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية